قبل أشهر من حلول الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء، التي أسست لاسترجاع الأقاليم الجنوبية إلى حضن الوطن، تتقاطع المؤشرات الإقليمية والدولية لتؤكد أن قضية الصحراء المغربية تقترب من الحسم السياسي والتاريخي.
وفي هذا التوقيت الدقيق، أجهضت الحكومة الإسبانية مجددا، وبلغة لا تحتمل التأويل، محاولات الجزائر استثمار بعض الديناميات الحزبية داخل مدريد للادعاء بوجود مراجعة في موقف الجارة الشمالية من ملف الصحراء.
غير ان الناطق الرسمي باسم الحكومة الإسبانية قالها بوضوح: الموقف الإسباني من قضية الصحراء لم يتغير، ودعم مدريد لمبادرة الحكم الذاتي المغربية يظل ثابتا، ويعكس قناعة سيادية لا تقبل التراجع.
وقد جاء رد مدريد بعد أسابيع من الهذيان الإعلامي الذي ساد في الجزائر، حيث انخرطت أبواق رسمية وشبه رسمية في الترويج لأكذوبة تراجع الدعم الإسباني للمغرب، بل ذهبت بعض الصحف المحسوبة على محيط السلطة العسكرية إلى الحديث عن “تصحيح مسار العلاقات” و”عودة إسبانيا إلى الحياد”، في استرجاع مفضوح لأوهام تجاوزها الزمن.
غير أن التصريح الرسمي الإسباني، الذي جاء على أعلى مستوى حكومي، فضح هذه الأوهام وأسقط آخر الأوراق التي كانت تلوّح بها الجزائر لتبرير عزلتها المتزايدة وفشلها المتواصل في قلب موازين القوى لصالح جبهة البوليساريو الانفصالية.
منذ مارس 2022، حين عبّر رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز، بشكل صريح، عن دعم بلاده لمبادرة الحكم الذاتي كحل وحيد واقعي وذي مصداقية للنزاع الإقليمي حول الصحراء، دخلت العلاقات بين الرباط ومدريد مرحلة جديدة قائمة على الوضوح والشراكة العميقة.
ومنذ تلك اللحظة، لم تتوقف الجزائر عن شنّ حملات موجهة ضد إسبانيا، من خلال محاولات استقطاب بعض الأصوات الحزبية الهامشية أو التلويح بورقة الغاز، لكن كل تلك المناورات تهاوت أمام منطق المصالح الإستراتيجية الذي يحكم العلاقة بين المغرب وإسبانيا.
فالرباط لم تعد تنظر إلى مدريد كشريك ظرفي أو حليف متردد، بل كفاعل إقليمي يتقاطع معه في ملفات كبرى كالأمن والهجرة والطاقة والتنمية.
وفي المقابل، أصبحت إسبانيا تنظر إلى المغرب باعتباره شريكا موثوقا، وقوة إقليمية مستقرة تلعب دوراً محورياً في استقرار غرب المتوسط.
لذلك، فإن كل محاولات التشويش على هذا التقارب محكوم عليها بالفشل، لأنها ببساطة تصطدم بجدار الواقع.
ووجدت الجزائر، التي فشلت في استدراج مدريد إلى مربّع الغموض القديم، نفسها مجددا في موقع المتفرج، تُعلّق على تحولات لا تملك أدوات التأثير فيها، وتُمارس سياسة إنكار واضحة لما يجري من تغيّر عميق في مواقف العواصم المؤثرة إزاء قضية الصحراء.
فالتحول الإسباني لم يعد استثناء، بل أصبح امتدادا لمواقف دول أوروبية وأمريكية وآسيوية تعتبر أن مبادرة الحكم الذاتي تُجسد حلا ناضجا وواقعيا، يُراعي استقرار المنطقة ويحفظ مصالح جميع الأطراف دون مسّ بوحدة الدول.
ما لا تستوعبه الجزائر، أو ترفض الاعتراف به، هو أن المغرب لم يربح فقط معركة الاعتراف، بل ربح معركة الشرعية والمصداقية.
فلم يعد النزاع حول الصحراء يُقاس بتصريحات عابرة أو قرارات إيديولوجية، بل يُقاس بالمواقف الثابتة، وبعدد القنصليات التي فُتحت في العيون والداخلة، وبعدد الدول التي تُعلن دعمها لمقترح الحكم الذاتي داخل أروقة الأمم المتحدة.
كما يُقاس أيضا بالمشاريع الكبرى التي تُنفذ في الجنوب، وباندماج هذه الأقاليم في الرؤية الملكية للنموذج التنموي الجديد، وبالتمثيلية السياسية والانتخابية الكاملة التي يتمتع بها أبناء الصحراء داخل مؤسسات الدولة.
الجزائر اختارت أن تظل عالقة في الزمن السياسي الميت، مستمرة في تمويل كيان وهمي لا قاعدة شعبية له، ومتورطة في تعطيل الحل السياسي من خلال رفضها لأي انخراط مسؤول في المسلسل الأممي.
والأسوأ، أنها ما تزال تراهن على أوراق انتهت صلاحيتها، وتخوض معارك إعلامية عبثية لا تصنع سياسة ولا تؤثر في القرار.
لذلك، فإن الضربة التي وجهتها مدريد للخطاب الجزائري لم تكن مجرد موقف سياسي، بل إعلان نهائي بانتهاء مرحلة الغموض، وبدء مرحلة الحسم.
المغرب، من جهته، لا يلتفت إلى ضجيج الحملة الجزائرية، بل يستعد في هدوء لإحياء الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء في نونبر المقبل، وهي ذكرى لن تقتصر على الاحتفاء بإنجاز الماضي، بل ستكون فرصة لترسيخ ملامح الحسم التاريخي في ملف الصحراء.
فالمسيرة التي انطلقت سنة 1975 لتحرير الأرض، تتواصل اليوم على مستوى السياسة والديبلوماسية والتنمية لتكريس السيادة بشكل نهائي وفاعل.
فلم يعد الحديث عن مغربية الصحراء موضع نقاش في العواصم الكبرى، بل بات من مسلمات الجغرافيا السياسية لما بعد الحرب الباردة.
وكل دولة تُراهن على الاستقرار والتكامل الإقليمي تدرك أن المغرب يُمثل ركيزة أساسية في هذا التوازن. أما من يُواصل معاندة التاريخ، فلن يملك سوى الانكماش داخل عزلته، ومراكمة الخيبات.
الرسالة وصلت. مدريد قالت كلمتها، والرباط تمضي بثقة، والجزائر تستنزف ما تبقى من أوراقها البالية.
والذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء قد لا تكون مجرد احتفال وطني، بل لحظة رمزية لحسم نهائي لنزاع مفتعل تأخر كثيرا عن موعده مع العقل والتاريخ.