في خطوة ذات حمولة رمزية قوية، أصدرت الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري (الهاكا) قرارا يلزم القناة الثانية ببث الأذان كاملا بصيغته الصوتية، وذلك بعد تسجيل مخالفة تمثلت في الاقتصار على عرض شريط مكتوب لأذان صلاة العشاء خلال أحد أيام شهر رمضان.
ويحمل هذا القرار الذي قد يبدو تقنيا في ظاهره، في جوهره دلالات أعمق تتجاوز مجرد الالتزام بدفتر التحملات، لتعكس وعيا مؤسساتيا بأهمية الحفاظ على التوازن الروحي داخل الفضاء الإعلامي العمومي.
وأكدت الهيئة، من خلال مراسلتها الموجهة إلى المرصد المغربي للإعلام، أن لجنة الرصد التابعة لها سجلت هذه المخالفة في الفترة الممتدة من 21 إلى 22 مارس 2025، معتبرة أن عدم بث الأذان بصيغته الصوتية يشكل إخلالا بمقتضيات دفتر التحملات الذي يُلزم القنوات العمومية بإعطاء الحضور الديني حقه الكامل ضمن البرمجة، لا سيما خلال شهر رمضان، الذي يحظى بخصوصية روحية في وجدان المغاربة.
القرار لم يأتِ في سياق رد فعل عابر، بل عقب نقاش داخل الهيئة في اجتماع رسمي بتاريخ 25 مارس، خلص إلى ضرورة تذكير القناة المعنية بواجب احترام البعد الديني في الممارسة الإعلامية العمومية.
في هذا الإطار، يندرج تدخل “الهاكا” ضمن منظور شمولي للدور الذي ينبغي أن تضطلع به المؤسسات التنظيمية في حماية الأمن الروحي، باعتباره مكوناً محورياً في النموذج المغربي الذي يرعاه الملك محمد السادس بصفته أميرا للمؤمنين.
فالأمن الروحي لا يقتصر فقط على مكافحة التطرف والغلو الديني، بل يشمل أيضا حماية المشترك الرمزي والديني للمغاربة من مظاهر التهميش أو التبسيط أو الحياد السلبي.
ومن هذا المنطلق، يصبح بث الأذان صوتيا كاملا ليس مجرد التزام شكلي، بل تعبيرا عن حضور الوعي الديني في الفضاء العمومي، وتجسيدا للاحترام المؤسساتي للطقوس الجماعية التي تشكل جزءاً من الأمن الروحي الجماعي.
وتبرز في خلفية هذا القرار، أيضا علاقة الإعلام بالدين، وهي علاقة دقيقة تتطلب توازنا حساسا بين احترام التعدد والاختلاف، والحفاظ على الثوابت الجامعة التي يشترك فيها عموم المغاربة.
فالمغرب، الذي اختار عبر تاريخه نموذجا معتدلا في تدبير الحقل الديني، يولي أهمية خاصة لعدم إقصاء الرموز والمظاهر الدينية من الفضاءات العامة، خصوصا تلك التي تديرها الدولة أو تمولها من المال العام، مثل القنوات العمومية.
وبالتالي، فإن غياب صوت الأذان، حتى وإن تم تعويضه بشريط مكتوب، يحمل رسالة سلبية قد تُفهم على أنها نوع من “التحييد الصامت” للقيم الدينية، في وقت تحتاج فيه المجتمعات إلى تثبيت مرجعياتها الروحية، لا المساس بها.
كما أن القرار يعكس حرص الهيئة على ضمان النفاذ المتساوي والمتوازن لمختلف التعبيرات الثقافية والدينية في الإعلام العمومي، انسجاما مع الدستور المغربي الذي ينص على صيانة الهوية الوطنية الموحدة، والمتعددة الروافد في الآن ذاته.
الأذان، في هذه الحالة، لا يُمثل فقط شعيرة دينية، بل هو جزء من المشهد الصوتي اليومي الذي يربط المواطن بزمنه الروحي، ويمنحه شعورا بالانتماء إلى جماعة متماسكة تتقاسم نفس الطقوس والمشاعر في لحظات محددة من اليوم، ومن السنة.
وفي ظل التحديات المتزايدة التي يعرفها الفضاء الإعلامي، خاصة مع تعدد المنصات وتنوع المرجعيات، يُعد الحفاظ على هذا النوع من الرموز الجامعة خطوة مهمة نحو تعزيز مناعة المجتمع الروحية، ومنع تسلل نماذج إعلامية دخيلة قد تسعى إلى إفراغ الإعلام من وظائفه التربوية والرمزية.
وعليه، فإن “الهاكا” تؤدي من خلال هذا النوع من القرارات وظيفة مزدوجة: تنظيمية من جهة، وروحية من جهة ثانية، تجعلها فاعلاً معبّراً عن التوجه العام للدولة المغربية في مجال تدبير الشأن الديني.
إن ما وقع من مخالفة، وإن بدا بسيطا، فإنه يُظهر كيف يمكن لثغرات صغيرة في الممارسة الإعلامية أن تفتح المجال أمام تساؤلات كبرى حول توجهات المؤسسات، وحول مدى التزامها بالثوابت الوطنية، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالفترات الزمنية المشحونة بالدلالات الروحية، مثل شهر رمضان المبارك.
لذلك فإن هذا التذكير الصادر عن الهيئة يُعتبر بمثابة تنبيه مبكر ومطلوب، قبل أن تتسع الهوة بين القنوات العمومية ووجدان جمهورها، الذي لا يتعامل مع الأذان كعنصر شكلي، بل كنداء وجداني يومي يربطه بالسكينة والانضباط الجماعي للزمن الديني.
وبالنظر إلى كل هذه الأبعاد، يمكن القول إن قرار “الهاكا” يُشكل مثالا حيا على كيف يمكن للمؤسسات أن تواكب تحولات المجتمع دون التفريط في ثوابته، وأن تُمارس دورها الرقابي من موقع الانسجام مع الخيارات الكبرى للدولة، وليس من موقع الحياد البارد. وهو ما يعزز من مصداقية هذه المؤسسة في أعين الرأي العام، ويؤكد أن التنظيم لا يُقاس فقط بصرامته القانونية، بل أيضاً بقدرته على حماية العمق الرمزي للمجتمع.