تعد العلاقات بين فرنسا وإفريقيا جد معقدة حيث أن إزدهار فرنسا مرتبط تاريخيا بالقارة السمراء و بذلك فهي تحاول بكل قوة الحفاظ على موطئ قدم مهيمن في إفريقيا خصوصا الفرنكوفونية، لعدة أسباب منها خدمة مصالحها الإقتصادية و المالية و كذا الحفاظ على معقلها للهيبة المرتبطة بإرث السيادة التاريخية التي مارستها على القارة.
الاقتصاد و الثقافة و الأمن في خدمة فرنسا
فالعادات الاستعمارية القديمة لا تتلاشى عندما يتعلق الأمر بالمصالح الفرنسية بإفريقيا، والتي تدور في الغالب حول النفوذ الاقتصادي عن طريق القطاع الخاص إذ تنتشر المؤسسات الفرنسية العملاقة في ربوع القارة لتقيم مشاريع متعددة بل أحيانا تكون السيطرة كبيرة لتلك الشركات على المواد الأولية الضرورية لتنمية اقتصادياتها ، فنجد استثمارات توتال في قطاع النفط والطاقة، وإلستروم في النقل، وبويغ في البناء والعقار، وأورانج في الاتصالات، وبي إن بي باريبا والشركة العامة في قطاع البنوك
وباعتبارها أيضا ضامنًا للنظام النقدي بمنطقة غرب إفريقيا، تمارس فرنسا نوعًا من السيادة على عملة الفرنك المعمول بها هناك، وذلك بإلزامها الدول المعنية « بالاحتفاظ بنسبة 50 في المئة من احتياطياتها من العملات الأجنبية في الخزانة الفرنسية، فضلًا عن 20 في المئة إضافية التزامات مالية، هذا إلى جانب عضوية فرنسا في مجلس إدارة البنك المركزي لدول غرب إفريقيا التي تمكِّنها من حق النقض الفعلي. وتخول هذه الآلية فرنسا بسط سيطرتها على أموال واقتصادات 12 دولة من مستعمراتها السابقة
أما عن الجانب الثقافي فهناك علاقة وراثية عميقة بين القوة الاستعمارية ومستعمراتها السابقة تتجلى من خلال تراثها الثقافي بإفريقيا الفرنكوفونية، ذلك أن أكثر من عشر سكان القارة الإفريقية ما زالوا يتحدثون الفرنسية، ويتم إضفاء الطابع المؤسساتي أيضًا على هذه العلاقة وذلك لتوحيد المستعمرات الفرنسية السابقة تحت لوائها,
أما عن الوجود العسكري الكبير لفرنسا في إفريقيا فهذه الأخيرة تتمتع بتاريخ طويل من الانخراط العسكري في إفريقيا سواء من خلال قواعدها العسكرية المنتشرة بالقارة أو من خلال عمليات عسكرية خاصة، حيث تظل فرنسا الدولة الغربية الأكثر تورطًا في هذا الإطار في إفريقيا، وذلك للحفاظ على الحديقة الخلفية لديها، و تجسيدًا لأسطورة فرنسا الإفريقية بوصفها قوة مسؤولة عن ضمان أمن إفريقيا
إفريقيا تنتفض أمام الهيمنة الفرنسية
ورغم مواصلة فرنسا لدورها المركزي في إفريقيا، إلا أن قوتها ونفوذها أخذا يتراجعان بشكل ملحوظ. فقد تهاوت جاذبيتها في أعين الأفارقة وذلك أمام فشلها في جلب الاستقرار لمناطق وجودها بالقارة؛ حيث ظهر أن فرنسا منشغلة بمصالحها مما سمح بتمدد الجماعات المُسلحة وتدهور الوضع الاقتصادي وجثو الأنظمة الفاسدة، وهو ما دفع بالدول الإفريقية للاستجارة بقوى أجنبية أخرى منافسة لفرنسا أو للاستدارة صوب شركاء جدد خارج دائرة الاستئثار الفرنسي؛ أبرزها البحث عن شركاء أمنيين غير فرنسا (روسيا)، أو شركاء اقتصاديين مثل الصين وتركيا
و رغم أن الهيمنة الدبلوماسية الفرنسية في إفريقيا التي تزيد عن قرن من الزمان آخذة في التراجع؛ حيث لم تعد فرنسا اللاعب الرئيسي على المسرح الإفريقي، إلا أن إفريقيا بالنسبة لها ليست قارة مثل أي قارة أخرى، ولذلك فهي لا ترغب في الاعتراف بالمنافسة الدولية لها فيها، ولن تتوانى عن السعي لاستعادة تأثيرها في إفريقيا و إعادة التموقع في إفريقيا، و ذلك إما بجلب الاتحاد الأوروبي معها إلى معترك القارة الإفريقية مع لعب دور قيادي في ذلك أو البحث عن دركي لحماية مصالحها بالقارة و هو ما ستقوم به الجزائر مستقبلا مقابل حصولها على المساعدات العسكرية و التقنية و (خلق محور عسكري جديد جزائري- فرنسي في إفريقيا ) في مقابل المحور المغربي-الأمريكي-الإسرائيلي.
فرنسا و موقفها غير الواضح من مغربية الصحراء
المقاربة التي حظي بها ملف الصحراء من طرف الإدارة الأمريكية كان لها وقع على الموقف الفرنسي التي تعتبر نفسها المؤثر الرئيسي في القضايا التي تهم أفريقيا عامة والمغرب خاصة، و بذلك ففرنسا تنظر في موقف الولايات المتحدة منافسة على بلد ظل ضمن مناطق النفوذ الفرنسي منذ الحقبة الاستعمارية و مبادرة أمريكية ستشجع دولا على القيام بنفس النهج و دافع رئيسي جعل المملكة تطالب شركائها بمواقف أكثر وضوح في قضية كانت تستعملها فرنسا كورقة مساومة بين المغرب و الجزائر.
فالخطاب المغربي بعد الإعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء عرف تغييرا واضحا في المفردات المستعملة و كذا الحدة في الموقف من قضية الصحراء، إذ طالب أكثر من مرة بضرورة الخروج من وضعية « المنزلة بين المنزلتين » و مغادرة المنطقة الرمادية.
فالمغرب انتظر منذ مدة موقفا فرنسيا واضحا بخصوص الصحراء بسبب العلاقة التاريخية بين فرنسا والمغرب نتيجة الثقل الذي تمثله فرنسا في منطقة شمال إفريقيا بالإضافة إلى ضرورة تقديم فرنسا موقفا متقدما أسوة بدول أخرى في الاتحاد الأوربي إلا أن هذه الأخيرة ظلت تتماطل وقفت في المنطقة الرمادية متحججة بدعمها للقرارات الأممية
فرنسا متوجسة من تنامي قوة المغرب السياسية و الاقتصادية في إفريقيا
يتمتع المغرب خصوصا في غرب إفريقيا بموقع رمزي ، وهنا نتحدث عن فعالية الدبلوماسية الدينية وجهود الوساطة في حل النزاعات التي انتهجها، وقد تجلت الدبلوماسية الدينية المغربية في الدور الفعال الذي تقوم به دول أفريقية متعددة بتكوين الأئمة ونسج شبكة من المؤسسات والمبادرات الفاعلة في الحقل الديني.
أما عن جهود الوساطة المغربية في إفريقيا فيمكن الإشارة إلى الأدوار التي اضطلع بها المغرب في جمع الفرقاء الليبيين لتجنيب البلد الانزلاق إلى الخيار المسلح، وتغليب خيارات الحوار والتفاوض السياسي بدلا من البندقية التي قد تؤدي إلى حرب الكل ضد الكل، لكن في هذا الملف تبقى هناك أيضا تضارب في المصالح بين فرنسا والمغرب وأطراف أخرى.
من جهة أخرى فالحضور الاقتصادي المغربي في غرب أفريقيا وفعالية المغرب في الساحة جعلاه في احتكاك مباشر مع فرنسا التي تعتبر أفريقيا امتدادا طبيعيا لها، لكن هذه التبعية التي جعلت فرنسا تغتني بفعل الهيمنة في الاقتصاد ومن خلال تمهيد الطريق لنخبة تابعة لها لإدارة شؤون السلطة والحكم في العديد من البلدان بفعل الانقلابات ودعم النخب الفاسدة قد بدأت في التراجع مقابل صعود الوعي بأهمية الاستقلال والسيادة الوطنية، مع عدم الوقوع ضحية الاستغلال الفاحش في الثروات ومصادرة بناء الديمقراطيات الوليدة في أفريقيا.
من جهة أخرى لا تنحصر المشكلة عند هذا الحد، بل أضحى الحضور الفرنسي في أفريقيا مزاحما من طرف الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وتركيا والصين، والحديث هنا عن الولايات المتحدة للتأكيد على خلافات جوهرية حاصلة بين الحليفين في أفريقيا برزت في السياق المغربي بشكل واضح من خلال القلق الفرنسي المضمر من الحضور الأمريكي في المغرب، وما نتج عن ذلك اقتصاديا وسياسيا بخصوص الصحراء، بالإضافة إلى الجانبين الأمني والعسكري.