يتزايد التوجس الإسباني من الزخم الإعلامي المغربي المتصاعد حول سبتة ومليلية، حيث أصبحت المدينتان محورا لنقاش سياسي وإستراتيجي غير مسبوق، يعكس تحولات أعمق في التوازنات الإقليمية بين الرباط ومدريد.
فمنذ أشهر، تشهد التغطية الإعلامية المغربية تحولا نوعيا، تجاوزت فيه التغطية الإخبارية التقليدية نحو خطاب تحليلي يعتمد على مرجعيات تاريخية وقانونية تضع وضع المدينتين المحتلتين موضع تساؤل، في سياق إقليمي يزداد تعقيدا.
ويأتي هذا الزخم الإعلامي في سياق دينامية مغربية جديدة توظف الإعلام كأداة إستراتيجية لمواكبة تحركات الدبلوماسية المغربية التي نجحت في إحداث تحولات جوهرية في ملفات إقليمية، أبرزها قضية الصحراء المغربية، التي اضطرت مدريد إلى التعامل معها ببراغماتية، بعدما اعترفت بأهمية مبادرة الحكم الذاتي كحل واقعي للنزاع.
وتعكس التحولات التي شهدها هذا الملف إدراك إسبانيا لمعادلة القوة الجديدة في المنطقة، وهي معادلة تتجاوز البعد الثنائي المغربي الإسباني لتشمل الفاعلين الدوليين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، التي أصبحت تعتبر المغرب شريكا استراتيجيا في أمن المتوسط وأفريقيا.
التغطية الإعلامية المغربية، التي أصبحت أكثر انتظاما وتأثيرا، لا تكتفي باستعراض البعد التاريخي للقضية، بل تسلط الضوء على معطيات إستراتيجية مثل موقف حلف شمال الأطلسي (الناتو) من المدينتين.
وكشفت تصريحات الأدميرال الإسباني خوان رودريغيز غارات، التي لم تحسم في مدى التزام الحلف بحماية سبتة ومليلية في حال وقوع توتر، نقطة ضعف جوهرية في الحسابات الدفاعية الإسبانية، ما أثار جدلاً في مدريد حول مدى قدرة إسبانيا على تأمين المدينتين دون ضمانات صلبة من حلفائها الغربيين.
وفي هذا السياق، يبرز المغرب كطرف يستثمر بذكاء في المعادلات الإستراتيجية الجديدة، معتمدا على تعزيز شراكاته الدفاعية والاقتصادية، ما يجعله في موقع تفاوضي أقوى إزاء القضايا السيادية.
وعلى المستوى الداخلي الإسباني، يعكس التعامل الرسمي مع هذه الدينامية الإعلامية حالة من التردد، إذ تسعى مدريد إلى التقليل من أهمية الطرح المغربي، لكنها تجد نفسها في وضع دفاعي مع تزايد النقاش داخل الأوساط السياسية والإعلامية الإسبانية حول هشاشة الموقف الرسمي بشأن المدينتين.
وباتت الصحف الإسبانية، بدورها، تخصص مساحات أوسع لهذا الملف، وإن كانت تحاول تأطيره ضمن خطاب “المخاوف الأمنية” أو “الضغوط الدبلوماسية المغربية”، إلا أن حضور القضية في النقاش العام يعكس إدراكا متزايدا بأن واقعا جديدًا بصدد التشكل.
وتكمن إحدى أبرز أبعاد هذا الزخم الإعلامي في قدرته على خلق وعي جماعي مغربي جديد تجاه المدينتين، حيث أصبح طرح القضية يتجاوز الدوائر الأكاديمية والنخب السياسية ليصل إلى الرأي العام الواسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وقد ساهم المحتوى الرقمي، المدعوم بوثائق تاريخية وتحليلات قانونية، في زعزعة الخطاب الإسباني التقليدي، الذي كان لعقود يتعامل مع المدينتين كملف محسوم. غير أن هذا الامتداد الشعبي للقضية يجعلها أكثر صعوبة على مدريد، التي تدرك أن مواجهة خطاب رسمي ودبلوماسي أمر مختلف عن التعامل مع موجة إعلامية رقمية قادرة على إعادة إنتاج السرديات التاريخية بشكل مؤثر.
علاوة على ذلك، فإن الرباط، التي نجحت في فرض معادلات جديدة في ملفات سيادية مثل الصحراء المغربية، تبدو أكثر ثقة في التعامل مع قضية سبتة ومليلية، مستندة إلى زخم دبلوماسي وإعلامي يجعل من المدينتين موضوعًا مطروحا على المدى البعيد.
وفي ظل تزايد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية داخل المدينتين، مع تراجع التجارة الحدودية بعد إغلاق المعابر، يبرز التساؤل حول مدى قدرة مدريد على الاستمرار في نهجها التقليدي دون تقديم تنازلات في إطار مقاربة أكثر واقعية تتماشى مع التحولات الإقليمية والدولية.
في هذا السياق، لا تبدو المعادلة محسومة، لكن الواضح أن المغرب يفرض إيقاعًا جديدًا في التعاطي مع ملف المدينتين، مستفيدًا من زخم إعلامي متنامٍ يعيد تعريف قواعد اللعبة، ويجعل من سبتة ومليلية قضية مفتوحة على تحولات قد تتجاوز السقف الذي اعتادت مدريد التعامل معه.