في خضم التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي يعرفها حوض البحر الأبيض المتوسط، تعود العلاقات الفرنسية مع ضفّتيه الجنوبية لتتصدر العناوين من جديد، وسط مقارنات لا تخلو من دلالات.
تقرير حديث بثته إذاعة Europe 1 سلط الضوء، بوضوح نادر، على مفارقة حادّة: في الوقت الذي تشهد فيه العلاقات الفرنسية المغربية نوعًا من التعافي والتنسيق البراغماتي، تغرق العلاقات الفرنسية الجزائرية في مزيد من الغموض والتشنج.
التقرير، الذي حمل عنوانًا لافتًا حول “تباين مسار العلاقات الباريسية بين الرباط والجزائر”، أشار إلى أن باريس، رغم خلافاتها المتقطعة مع الرباط، لم تفقد أبدًا بوصلتها الحقيقية.
فالعلاقات الأمنية، الاقتصادية، والثقافية ظلت قائمة على الثقة الاستراتيجية، وهو ما ساعد على ترميم الخلافات الظرفية واستعادة الزخم السياسي، كما تجلّى مؤخرًا في زيارة وزير الداخلية الفرنسي برونو روتايو إلى الرباط، واستقباله من طرف نظيره المغربي عبد الوافي لفتيت.
في المقابل، أوضح التقرير أن العلاقة مع الجزائر تبدو أكثر هشاشة وارتباكًا، تغلب عليها الازدواجية والاصطفاف الإعلامي العدائي، وسط صمت رسمي غالبًا ما يُفسّر على أنه إقرار بالجمود، لا بالتريث. ورغم محاولات ماكرون المتكررة لكسب ودّ قصر المرادية، فإن هذه المبادرات كثيرًا ما تُقابل إما بالتصعيد أو بالتجاهل، ما يعكس عمق أزمة الثقة بين البلدين.
ويستشهد التقرير بعدة مؤشرات، من بينها التعاون الأمني النشط مع المغرب مقابل انقطاع في القنوات مع الجزائر، وعودة النشاط الثقافي والتعليمي بين باريس والرباط مقابل تراجع ملحوظ في التبادل الأكاديمي والدبلوماسي مع الجزائر.
بل إن فرنسا باتت تعتبر، ضمنيًا، أن شراكتها الحقيقية في المنطقة المغاربية تمر عبر المغرب، بالنظر إلى استقراره، ديناميته الاقتصادية، ووضوح رؤيته في القضايا الكبرى، سواء تعلق الأمر بالصحراء أو الهجرة أو الأمن الإقليمي.
وفي ظل هذه المعادلة، يجد صانع القرار الفرنسي نفسه أمام خيار واضح: براغماتية هادئة مع الرباط تُفضي إلى نتائج ملموسة، أم انسياق خلف خطاب شعبوي قادم من الجزائر لا يقدم بديلاً سوى التأزيم والتوجس.
تقرير Europe 1 لم يكن مجرد مادة إعلامية، بل قراءة عميقة لموازين النفوذ في المنطقة المغاربية من زاوية فرنسية، تؤكد أن باريس – رغم ازدواجية خطابها في بعض المحطات – تدرك أن علاقاتها مع الرباط ليست فقط خيارًا استراتيجيًا، بل استثمارًا رابحًا في الاستقرار والوضوح.