مع مطلع العام الجديد، أصيب الجنوب إفريقيون بالصدمة من الحقائق التي تضمنها تقرير اللجنة القضائية للتحقيق في الفساد، والذي تم أول أمس الثلاثاء نشر جزئه الأول.
ولم يكن الفساد في حد ذاته معطى جديدا في هذا التقرير، على اعتبار أن المسؤولين والمواطنين العاديين على حد سواء يعلمون جيدا أن هذه الآفة تنهش البلاد منذ فترة طويلة. غير أن الطابع العام لاستشراء الفساد في كافة مؤسسات الدولة وفي صفوف العديد من كبار المسؤولين هو ما أثار غضب وذهول المواطنين.
ومنذ البداية، يكشف تقرير لجنة زوندو (نسبة لاسم كبير القضاة ريموند زوندو)، المكون من ثلاثة أجزاء، أن الفساد قد أصبح ممنهجا في كافة الإدارات، ويتورط فيه كبار المسؤولين في المؤتمر الوطني الإفريقي، الحزب الحاكم في جنوب إفريقيا، بما في ذلك الرئيس السابق جاكوب زوما.
وهكذا، فشلت الحكومة والبرلمان وحزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم في اتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على ظاهرة “الاستيلاء على الدولة”، التي أضعفت الديمقراطية في جنوب إفريقيا في السنوات الأخيرة.
ويوضح الجزء الأول من التقرير، الذي تم تقديمه الثلاثاء إلى الرئيس سيريل رامافوزا ، بالتفصيل كيف أصبحت مؤسسات رئيسية من قبيل الهيئة الجنوب إفريقية للمداخيل (سارس) ، وشركة النقل السككي “ترانسنت” ، والشركة العامة للكهرباء “إسكوم” ، والشركة الوطنية للنقل الجوي ” SAA “ونظام الاتصال والمعلومات الحكومية معطلة ” من أجل اختلاس الأموال العمومية من قبل الأفراد “.
ومن الخلاصات المفاجئة التي كشف عنها التقرير “الدور المحوري” الذي لعبه الرئيس السابق جاكوب زوما ومفوض خدمات الضرائب السابق توم موياني فيما وصفته اللجنة ب”تفكيك” مصلحة الضرائب بتآمر مع الهيئة الجنوب إفريقية للمداخيل. حيث كان الغرض من هذا التواطؤ إضعاف قدرة المصالح الضريبية على العمل على النحو الأمثل.
وبحسب التقرير فقد ” تم إضعاف (سارس) بشكل ممنهج ومتعمد، وذلك من خلال إعادة هيكلة قدرتها المؤسسية، وتعيينات استراتيجية ، وإقالة أفراد أساسيين. إنه مثال واضح على الاستيلاء على الدولة “.
كما سلط التحقيق الضوء على كيفية توظيف عائلة جوبتا، وهي عائلة من الهنود الأثرياء، جريدتها “ذا نيو إيج”، التي توقفت عن الصدور، لكسب الملايين من خزائن الدولة على شكل إعلانات وعقود رعاية غير مبررة. في الواقع ، استغل آل جوبتا قربهم من الرئيس السابق جاكوب زوما لحث المؤسسات الحكومية السالفة الذكر على إنفاق ملايين الراندات على الإعلان في الصحيفة.
كما تم إنفاق الملايين على عقود رعاية وشراكات مع الصحيفة و “TNA Business Breakfasts”.
ويخضع زوما حاليا للمحاكمة بتهم تتعلق بالاحتيال والفساد والابتزاز وغسيل الأموال المرتبط بعقد لشراء طائرات مقاتلة وقوارب دورية ومعدات عسكرية بقيمة 4.2 مليار يورو ، تم توقيعه في عام 1999. كما يشتبه في قبوله رشى وحماية مصالح شركة تابعة لشركة الأسلحة والإلكترونيات الفرنسية ” Thomson-CSF” (تاليس حاليا)، عندما كان يشغل منصب نائب الرئيس.
وكشف القاضي زوندو، في توصياته، أنه لا يمكن الوثوق بالحكومة لقيادة مكافحة الفساد. وأشار إلى أنه “لم يعد من الممكن ترك المسؤولية النهائية لقيادة مكافحة الفساد في الصفقات العامة لوزارة ما” ، مشددا على أن السبيل الوحيد لتغيير الوضع يكمن في إحداث “هيئة لمكافحة الفساد لا تخضع لأي مراقبة سياسية “.
وقال رئيس جنوب إفريقيا ، أثناء تسلمه لتقرير اللجنة، إن الفساد المستشري الذي ينخر مؤسسات جنوب إفريقيا في السنوات الأخيرة كان له تأثير مدمر على ثقة مواطني جنوب إفريقيا في قادتهم، مضيفا أن “الاستيلاء على الدولة زعزع ثقة المواطنين في دولة القانون والمؤسسات العامة وقوات الأمن بل وحتى في العملية الديمقراطية”.
ويعتقد الكثيرون، بعد نشر هذا التقرير الذي طال انتظاره، أن كل القوى الحية للأمة تتحمل مسؤولية جماعية في السهر على أن تشكل خلاصات وتوصيات اللجنة قطيعة نهائية مع ممارسات الفساد في الماضي، وأن تضع أسس الشفافية والمسؤولية والسلوكيات الأخلاقية داخل مؤسسات الدولة وفي المجتمع ككل.
ويتقاسم هذا الرأي بشكل خاص المتحدث السابق باسم الرئاسة، ماك ماهاراج الذي اعتبر أن ساكنة البلاد يجب تطالب الحكومة باتخاذ الإجراءات المناسبة بناء على نتائج لجنة التحقيق المعنية بالفساد.
وقال ماهاراج إن “التقرير يقدم فرصة لخلق ثقافة المساءلة في البلاد” ، واصفا اللجنة بالأداة الحاسمة لمكافحة الفساد الذي تعاني منه جميع المؤسسات في البلاد.
ودعا، في هذا الصدد، حكومة المؤتمر الوطني الإفريقي ليس فقط إلى التجاوب مع خلاصات المفوضية القضائية للتحقيق، ولكن أيضا إلى جعلها مصدر إلهام لأعضاء الحزب.
يذكر أنه تم إحداث لجنة التحقيق في عام 2018 بهدف التحقيق في ظاهرة “الاستيلاء على الدولة” التي تشير إلى الاختلاس الواسع للأموال العمومية من قبل رجال أعمال وسياسيين وموظفين خلال فترتي ولاية الرئيس السابق جاكوب زوما (2009-2018).