لا تزال دار الدباغة “شوارة” في فاس الماثلة عبر قرون من دون تغيير (حفر بألوان متعددة لصباغة الجلود بألوان شتى)، تقاوم تقلبات الزمن وتنافس المنتجات الحديثة.
وتشكل دار الدباغة القلب النابض لمهنيي مدينة فاس العتيقة وتجارها، لكونها تشكل الحلقة الأهم في إنتاج الجلود ومصدر رزقٍ لآلاف المواطنين.
و”شوارة” هي إحدى دور الدباغة الثلاث في فاس وأكبرها على الإطلاق، بنيت في القرن الحادي عشر الميلادي، وتعتبر أقدم مدبغة في العالم العربي، وتوجد في حي الدباغين الذي يفصل منطقتي الأندلس (مسجد الأندلس) والقرويين (أقدم جامعة في العالم).
وتتكون من أحواض دائرية من الحجر ممتلئة بالأصباغ أو بالسوائل لتليين الصلال، عبر استخدام مواد ومنتجات طبيعية. وظلت رمزاً حرفياً للمدينة من خلال إعداد الجلود المناسبة لصناعة الأحذية التي تشتهر بها فاس.
الدباغة النباتية التقليدية
ووسط أحد الأحواض، ينهمك محسن صادق (شاب في عقده الثالث) في عمله بكل تفانٍ، واختار امتهان حرفة الدباغة التقليدية، بعدما نقل الحرفة عن والده الذي تقاعد بسبب تقدم سنّه وتدهور حالته الصحية.
ويأخذ محسن على عاتقه مهمة حماية حرفة الدباغة من الانقراض، وهو يترأس “التعاونية الفاسية للدباغة النبانية”.
و يقول محسن صادق إن “دار الدباغة قبلة سياحية عالمية تحافظ على الدباغة النباتية التقليدية التي تعتبر أساس كل المنتجات الجلدية”.
وأضاف: “على الرغم من الظروف وهشاشة قطاع الصناعة التقليدية (الصناعات اليدوية النباتية) والتقليد، فإننا نجتهد من أجل حماية حرفة الدباغة من الاندثار، خصوصاً أن الحرفيين يورثون الحرفة إلى أبنائهم من جيل إلى جيل”.
وأوضح أن “الدباغين يقومون بتدوير جلود الماشية وجعلها قابلة للتصنيع، لكن بطرق تقليدية ومواد نباتية طبيعية صرفة”.
وعن مراحل الدباغة، قال: “ينتقي الدباغون الجلود، وبعد تنقيتها يضعونها في الحوض الدائري لمدة 10 أيام لتتشبع بألوان الصباغة، بعدما تتم تنقيتها وغسلها جيداً باستعمال مواد كالجير وفضلات الحمام، ثم يقومون برميها داخل “الجفنة ليتم دبغها”.
وتابع موضحاً: “الألوان التي تصطبغ بها الجلود، تستخرج بالأساس من قشور الرمان والزعفران ومواد طبيعية أخرى”.
قاطرة الصناعة التقليدية
أما عبد الناصر العماري، رئيس “الجمعية المهنية للمعلمين الدباغة” (غير حكومية) وعضو في غرفة الصناعة التقليدية بجهة فاس-مكناس، فيعتبر أن “مدبغة شوارة معلمة سياحية تاريخية تحافظ على بصمتها كقاطرة للصناعة التقليدية في مدينة فاس العتيقة”.
وأضاف العماري أن “دار الدباغة هي مهد الصناعات الجلدية في العالم، تحافظ على أصالتها من خلال الدباغة النباتية التي انقرضت في العالم وبقيت صامدة في فاس”.
وأوضح: “الحرفيون المعلمون يحبون هذه الحرفة الأصيلة ويناضلون من أجل بقائها ويحرصون على تقديم جودة عالية للدباغة النباتية”.
وتابع: “لحماية أصالة المنتجات وجودتها، يمنح الحرفيون في المدبغة شارات الجودة للتمييز بين المنتجات المصنوعة تقليدياً والأخرى المزورة”.
وشدد على أن “دار الدباغة تعتبر مركزاً للتدريب في مجال الصناعات الجلدية، حيث استفاد قبل أيام خبراء من إيطاليا وإسبانيا من التدريب هنا”.
وأرخت كورونا بظلالها على دار الدباغة، خصوصاً مع إغلاق المغرب حدوده الجوية والبحرية لأكثر من ثلاثة أشهر، ما تسبب بتوقف حركة السياح.
وعن تأثير جائحة كورونا، أوضح العماري أنها “تسببت بتوقف تام للعمل في دار الدباغة، خصوصاً خلال أشهر الحجر الصحي (من 20 مارس إلى منتصف يونيو)، لكننا نتمنى انطلاقة جديدة”.
وتشتهر مدينة فاس، منذ نشأتها قبل 12 قرناً، بتفنن أهلها وحرفييها بمختلف أنواع الصناعات التقليدية، لا سيما الدباغة التي تقاوم زحف مظاهر الحياة المعاصرة.
ويشكل قطاع الصناعة التقليدية، وفق إحصاءات رسمية، مصدر دخل رئيسي لحوالي 33 في المائة من سكان مدينة فاس عموماً، و75 في المائة من سكان المدينة القديمة، موزعين على أكثر من 200 حرفة.
وتعتبر مدينة فاس رابع أكبر مدن البلاد، إذ يبلغ عدد سكانها 1.9 مليون نسمة، من إجمالي 34.3 مليون نسمة، وتحتضن فاس “البالي” أو المدينة التراثية القديمة.
ويعمل في الصناعة التقليدية التراثية في المغرب أكثر من 412 ألف شخص، وفق إحصاءات رسمية، ويصل رقم معاملاتها 22.4 مليار درهم .
(الأناضول)