وطن 24 – معاذ السباعي
في الوقت الذي تتهيأ فيه الحكومة المغربية لوضع آخر مشروع قانون مالية خلال الولاية التشريعية الجارية، تتقاطع الانتظارات المجتمعية مع تحديات مالية واقتصادية معقدة، في سياق يُعد من بين الأشد حساسية منذ تنصيب الحكومة الحالية.
فالمشروع المنتظر إيداعه لدى مجلس النواب مطلع الأسبوع المقبل لا يُختزل في كونه إطارا سنويًا للبرمجة المالية، بل يتحول إلى اختبار مزدوج: سياسي في نهاية الولاية، واجتماعي في ظل تنامي مطالب الشارع.
وتقارب الوثيقة المالية التي ترد في السنة الخامسة من عمر الولاية من زاوية خاصة، إذ تُطرح داخلها أسئلة ترتبط بمدى وفاء الحكومة بالتزاماتها الواردة في البرنامج الحكومي، ومدى تقاطع اختياراتها الميزانياتية مع مضامين التوجيهات الملكية، في مقابل إكراهات التمويل وارتفاع منسوب التوتر الاجتماعي.
وفي هذا الإطار، يرى الأستاذ الجامعي ورئيس الجمعية المغربية للمالية العامة، حميد النهري، أن مشروع قانون مالية 2026 لا يمكن التعامل معه بوصفه مجرد آلية تقنية لتوزيع الاعتمادات. موضحا أن السياق السياسي، يتطلب وضوحًا في الأجوبة، وربطًا فعليًا بين المسؤولية والمحاسبة.
التوجيهات الملكية تنتظر التفعيل
وبحسب الدكتور النهري، فإن أول التحديات يتمثل في التفعيل الدقيق للتوجيهات الواردة في خطاب العرش لسنة 2025. حيث دعا الخطاب إلى إطلاق جيل جديد من البرامج التنموية، تركز على التشغيل الجهوي، وتعزيز الخدمات الأساسية، وتدبير الموارد المائية بكيفية استباقية، والتأهيل المجالي في انسجام مع الاستراتيجيات الوطنية الكبرى.
ويؤكد النهري، في تحليل نشره على حسابه بمنصة فيسبوك، أن مشروع الميزانية يجب أن يترجم هذه الأولويات عبر برمجة مالية واضحة، تأخذ بعين الاعتبار قدرة الدولة على التنفيذ.
ويرتبط التحدي الثاني، حسب النهري، بمسؤولية المؤسسات المنتخبة في ختام الولاية، وعلى رأسها السلطة التنفيذية وهيئات البرلمان. ويذكّر بأن الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح السنة التشريعية الرابعة، دعا الحكومة والبرلمان إلى تقديم حصيلة واقعية لا تبريرية.
ويرى أن مناقشة مشروع الميزانية ليست لحظة تقنية فحسب، بل مناسبة دستورية لمساءلة السياسات العمومية، وعلى البرلمان أن يضطلع بصلاحياته الرقابية كما ينص عليها الدستور.
أربع إكراهات تعرقل الخيارات
أما التحدي الثالث، فيتعلق بالسياق الاجتماعي المتوتر. فقد تصاعدت خلال الأسابيع الماضية احتجاجات شبابية غير مؤطرة تنظيمياً، ما يكشف، وفق النهري، عن أزمة وساطة بين الدولة والمجتمع.
ويعتبر أن طبيعة الأجوبة الاجتماعية التي سيتضمنها مشروع الميزانية ستكون بمثابة مؤشر على مدى جدية الدولة في استيعاب هذه الرسائل.
في المقابل، يحذر النهري من تجاهل أربعة إكراهات مركزية تؤطر المشهد المالي: هشاشة الظرفية الاقتصادية، ارتفاع كلفة النفقات الاجتماعية، محدودية الموارد، وتعثر إصلاح المنظومة الجبائية. ويشدد على أن التجاوب مع هذه التحديات يتطلب حلولًا واقعية، لا شعارات ظرفية.
العدالة الجبائية في قلب النقاش
ويرى النهري أن مقاربة هذه التحديات لا يمكن أن تظل حبيسة الأدوات التقليدية، بل تستوجب خيارات غير نمطية. مقترحا في هذا الإطار ثلاث توجهات مركزية. أولها، إطلاق حملة توظيف عمومي مباشر وشفاف، لسد الخصاص المسجل في قطاعات حيوية كالتعليم والصحة والإدارة.
ويؤكد أن الدولة ما تزال في حاجة إلى موارد بشرية إضافية، وأن المقارنات الدولية تبرز تأخرًا واضحًا في هذا المجال.
ثانيًا، يدعو إلى توسيع الوعاء الجبائي من خلال اعتماد ضريبة على الثروة أو الإرث، بعد عقود من التردد.
ويشير إلى أن هذا النقاش ليس جديدًا في المغرب، بل شكّل محورًا في المناظرات الوطنية للجبايات سنوات 1999 و2013 و2019، وأن بلدانًا مثل إسبانيا والبرازيل بدأت تنفيذ هذه التوصيات بدعم من اقتصاديين بارزين.
أما التوجه الثالث، فيتعلق بطبيعة العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص. ويرى النهري أن هذا القطاع يستفيد من التحفيزات والامتيازات دون أن يساهم بشكل منصف في تمويل السياسات الاجتماعية.
ويؤكد على ضرورة تحمّل الدولة لمسؤوليتها الكاملة في القطاعات الاجتماعية الأساسية، بدل تفويضها لفاعلين لا يضعون العدالة المجالية ضمن أولوياتهم.
ويختم بالقول إن مشروع قانون مالية 2026 ليس مجرد وثيقة ختامية لولاية حكومية، بل اختبار فعلي لقدرة الدولة على تقديم أجوبة واضحة، تعيد بناء الثقة وتضمن الاستقرار والتماسك الاجتماعي.

