في بلد يتّسع فيه الحاضر لما لا يُحتمل من ذاكرة، تصبح كل إشارة إلى الماضي سؤالا وجوديا، لا لكون الماضي محملا بوصمة، بل لأنه يهدد سردية شيدت على أنقاضه.
ليس لأن الأصل التركي عار، ولا لأن الأصل الفرنسي تهمة، بل لأن البنية السياسية التي نشأت بعد الاستقلال كانت بحاجة إلى بداية تقطع مع كل امتداد سابق.
النظام العسكري، وقد تأسس على أنقاض الكولونيالية، لم يجد لنفسه شرعية أعمق من تلك التي تستمد رمزيتها من لحظة الانفصال التام: سنة 1962. منذها، تحولت الذاكرة إلى منطقة محرمة، إلا في حدود ما يخدم أسطورة التأسيس، وكل ما يعود إلى ما قبل ذلك يعامل بصفته خطرا رمزيا.
وهنا بالضبط تبدأ المفارقة: كلما اقترب الجزائري من جذوره، كلما فكر في نسبه، في هجرات أجداده، في بيعة أقاليمه، في طبقات لغته ولهجته، ازداد النظام قلقا، وكأنما يطل من خلالها على هوية لم يصوتها هو، ولم يصادق عليها هو، ولم يشرف على تركيبها بيده. الخوف إذا ليس من الأصل، بل من ما يكشفه الأصل من انتماء غير مرخص له في خارطة ما بعد الاستعمار.
الجرح الاستعماري لا يزال مفتوحا، والذاكرة الفرنسية ثقيلة، ولا أحد ينكر ما راكمه هذا الاحتلال من ألم وهدم وتمزيق. لكن ثقل هذا الإرث لا ينبغي أن يتحول إلى ذريعة لصناعة قطيعة منهجية مع ما سبقه من مراحل، خاصة المرحلة العثمانية التي، رغم ما يقال عنها، لم تكن استيطانا أيديولوجيا، بل منظومة سيادية في سياق كان أكثر تعقيدا مما تحب الدولة الجزائرية أن تعترف به.
نفي هذه المرحلة لا ينبع من تقييم واقعي، بل من حاجة سياسية لإحكام قبضة الذاكرة، وتقليم كل فرع يمتد إلى ما لا تسيطر عليه السلطة.
وعلى المنوال ذاته، يُنظر إلى الامتداد المغاربي لا كرافد طبيعي، بل كأثر جانبي مزعج لوحدة مصطنعة. أن تكون لك أصول تركية، أو أن تنحدر من عائلة ارتبطت إداريا أو وجدانيا بالمغرب الأقصى، لا ينقص من جزائريتك، بل يزعج سردية الدولة. لأن هذه السردية لم تتأسس على احتضان التنوع، بل على توحيد قسري لا يقبل بالتشعب ولا بالطبقات. وهنا مكمن المعضلة: من لا يحتمل التاريخ، لا يصمد أمام الجغرافيا.
المشكل لم يكن يوما في التنوع، بل في نظام لم يعرف كيف يديره، ولا كيف يحوله إلى عنصر قوة. فاختار بدل ذلك أن يبقي على هوية جزائرية مصنعة، تبدأ من بيان أول نوفمبر وتنتهي عند الخريطة الفرنسية الموروثة، مرورا بممحاة تمحو كل أثر لما كان قبل ذلك.
إنه النظام الوحيد في المنطقة الذي يخاف من جذوره أكثر مما يخاف من خصومه. ولذلك، فإن مجرد ذكر الانتماء العثماني أو البيعة المغربية لا يُقرأ عنده كتفصيل ثقافي، بل كتهديد وجودي.
الذاكرة هنا ليست سجلا مشتركا، بل ساحة مراقبة، وكل ما لا يخضع لمقص الرقابة يُدرج ضمن خطر داخلي. وهكذا يصبح التاريخ مادة عدوانية تطارد ويُسكت عليها، لا سندا تُبنى عليه السياسات.
وحين يذكّر المغرب الجزائر بامتداداتها التاريخية، لا يفعل ذلك من موقع الاستعلاء، بل من زاوية استعادة المنطق المغاربي الذي أُقصي بفعل القطيعة الجزائرية.
لأن المغرب لا يحتاج إلى إثبات وجوده في خريطة المنطقة، بل فقط إلى تنبيه الجار بأن التاريخ لا يُشطب بالمزاج، ولا يُعاد تأليفه في مكاتب المؤسسة العسكرية.
أن تقول تلمسان أقرب لفاس منها إلى العاصمة، ليس استعلاء، بل تسجيل لحقيقة يعرفها من عاش، لا من حرر الخرائط في باريس. أن تقول إن ولاءات قبائل الغرب كانت معلقة في عنق السلطان، ليس تهديدا، بل استذكار لما تنكره الدولة لأنها لا تطيقه سياسيا.
الهوية حين تُبنى على النفي لا تنتج مواطنا، بل حارسا لذاكرة مثقوبة. وكلما ازداد عدد الحراس، ضاق الأفق، وازداد الهلع من أصل هنا، وامتداد هناك، وتاريخ يتسلل من كتب الأطفال أو من أفواه الشيوخ. وهكذا يتحول نظام كامل إلى كيان مذعور من ماضيه، يلهث وراء تطهيره بدل أن يتصالح معه.
وليس العيب في أن يكون لك أصل تركي أو فرنسي أو أمازيغي أو عربي، ولا أن تمتد جذورك إلى طنجة أو إسطنبول، بل العيب في أن تتحول هذه الأصول إلى ملفات استخباراتية تُفتح وتُغلق بحسب مزاج السلطة.
العيب كل العيب أن تُبنى دولة على الخوف من السؤال: من كنا قبل أن نكون جمهورية؟ ومن صاغ هذا المجال قبل أن تُعاد هندسته باسم الثورة؟
لقد آن الأوان لأن يُقال للنظام الجزائري بوضوح: الاستقلال لا يعني اختراع هوية من الصفر، ولا مسح الذاكرة بممحاة الخوف. أنتم لم تولدوا سنة 1962، بل ورثتم مجالا حيويا معقدا، فيه ما لا يشبهكم، وما لا يخدم أسطورتكم، لكنه موجود، وسيبقى. والخوف من الأصل ليس سيادة، بل أزمة وجود لا تُحل بالشعارات.

