البراق شادي عبد السلام
صدور الإحاطة الإعلامية رقم 96 لمجموعة الأزمات الدولية (ICG) بعنوان : نافذة للديبلوماسية على الصحراء المغربية بتاريخ 20 اكتوبر 2025 هي بكل وضوح إمتداد للمسار العدائي الذي كرسه التقرير رقم 247 لنفس الجهة بتاريخ 29 نونبر 2024 بعنوان “إدارة التوترات بين الجزائر والمغرب”، في مقالنا هذا سنعمل على تفكيك السردية الخاطئة و العمل على كشف الأكاذيب و الأراجيف التي تضمنتها المادتين و بشكل خاص الإحاطة الإعلامية لراهنيتها رغم أن التقرير يؤسس و يهيئ القارئ لتقبل الخطايا المنهجية في الإحاطة ، هذا دون الرد على مواد متعددة تنشرها المجموعة بشمل متواتر تشكل إنحياز كاملا و فاضحا للسردية الجزائرية حول النزاع الإقليمي المفتعل في الصحراء المغربية و يشكك بشكل كبير في قدرة تأثير هذه المنظمة في الاوساط السياسية و الديبلوماسية و الأكاديمية و الفكرية التي تترقب تحليلات موضوعية للمساعدة على خفض التصعيد الإقليمي، فبدلاً من أن يضيء التقرير / الإحاطة الإعلامية سبل الوساطة الدبلوماسية ويؤسس لحياد الوسيط، جاء ليتبنى بصورة واضحة سردية طرف واحد، مطلقاً “الرصاصة الأخيرة” على مصداقية المؤسسة.فهذا الانزلاق المنهجي يحول دور المجموعة من كيان يسعى لـ “الحل السلمي للنزاعات” إلى محرك فاعل يساهم عن غير قصد في تغذية الاستقطاب القائم، مما يثير تساؤلات جدية حول من وراء القلم الذي خط هذه التقرير / الإحاطة .
حيث يُفترض في التقارير الصادرة عن مؤسسات بحثية ذات ثقل مثل مجموعة الأزمات الدولية أن تتبع منهجية صارمة تقوم على المقارنة بين السرديات، وتحليل الأسباب الجذرية للنزاع دون الانحياز لطرف على حساب الآخر. غير أن التقرير رقم 247 و الإحاطة 96 في تحوّل لافت، تم تجاوز الخط الأحمر للحياد المهني السليم. فلم يكتفِ التقرير بالإخفاق في عرض نقاط التوافق المحتملة أو نقاط التقاطع الموضوعية، بل قام بتضخيم الرواية الخاصة بجهة واحدة، مقدماً إياها كحقيقة مطلقة أو كإطار تحليلي مهيمن ،فالتبني الصريح لـ “سردية طرف واحد” يمثل إخلالاً جوهرياً بعقد الثقة المبرم بين هذه المؤسسات وبين المجتمع الأكاديمي و السياسي و الدبلوماسي. لأن هذا الأسلوب لا يقلل فقط من جودة المنتج البحثي، بل يقوض الوظيفة الأساسية للتقرير: وهي المشاركة على نطاق واسع في توفير أرضية مشتركة قابلة للتفاوض أو، على الأقل، إطار تشخيصي متوازن. هذا الانحياز المنهجي يطرح علامات استفهام كبرى حول مصادر البيانات التي اعتمد عليها التقرير، ومدى شمولية المحللين المعنيين بالملف، مما يوحي بتأثير أجندات محددة على مخرجات التحليل.
فلا يخفى على أحد ان التقارير الصادرة عن مؤسسات مثل مجموعة الأزمات الدولية تعتبر بمثابة ادوات تحليل مساعدة للمحيط الإداري لكبار الموظفين الدوليين و المبعوثين الخاصين، والوسطاء المحتملين، وصناع القرار في العواصم الكبرى. عندما يفقد هذا “التحليل المرجعي” حياده، فإنه يحرم الأطراف الثالثة من الأساس اللازم لتقديم وساطة بناءة. لأن التقرير المنحاز لا يساعد على فك الاشتباك، بل يساهم في تأصيل وجهة نظر طرف على حساب الآخر في الوثائق الدبلوماسية العالمية ،فكما هو متعارف عليه البيانات والتحليلات المتوازنة هي العملة الأساسية في الدبلوماسية الوقائية ، عندما يتم تزويد الوسطاء المحتملين بأداة تحليلية ملوّثة بالانحياز، يصبح من المستحيل عليهم التأسيس لـ “مبادرة حوار” ذات مصداقية. و هذا السلوك سيدفع الأطراف المعنية إلى التشكيك في نزاهة المؤسسة الوسيطة نفسها، مما يقلص من مجال عملها المستقبلي ويجعل محاولاتها اللاحقة للمساهمة في حل النزاعات موضع شك و ريبة. و عليه فمجموعة الأزمات الدولية، بتقريرها هذا، لم تخاطر بمصداقية تقرير واحد فحسب، بل وضعت مصداقية دورها ككل على المحك في مجال الوساطة و التفكير الإستراتيجي .
مجموعة الأزمات الدولية (International Crisis Group) هي مؤسسة بحثية غير حكومية (NGO) تُعد من أبرز “مراكز التفكير” العالمية، وتُعنى بالتحليل الميداني للنزاعات وتقديم التوصيات السياسية لمنع نشوبها وحلها. تأسست عام 1995 بمبادرة من شخصيات بارزة شعروا بالإحباط جراء فشل المجتمع الدولي في الاستجابة لمآسي مثل البوسنة ورواندا، ويقع مقرها الرئيسي في بروكسل ببلجيكا. تضم شبكة واسعة من الخبراء والدبلوماسيين السابقين، حيث قدمت فيما سبق تحليلات موضوعية ومحايدة لصناع القرار الدوليين والمؤسسات المانحة.
لكن يُسجل على التقرير أولى نقاط ضعفه بتبنيه غير المشروط لـ الـ “casus belli” أو ذريعة الحرب الذي أعلنته الجزائر لقطع العلاقات الديبلوماسية مع المملكة المغربية ، فقد بالغ التقرير في تأكيد مروية جزائرية أن أن قرار إقامة علاقات ديبلوماسية بين المغرب و إسرائيل يمثل “تهديداً للأمن القومي الجزائري”، محوّلاً بذلك السبب الدبلوماسي المُعلن إلى حقيقة موضوعية لا تقبل الجدل و بالتالي فالقبول المباشر للموقف الجزائري و إعادة تدويره دون تحليل نقدي لموقفها كدولة ذات سيادة قررت من طرف واحد إنهاء العلاقات مع دولة ذات سيادة نتيجة قرار سيادي، يُعتبر خرقاً لميثاق الحياد الذي ينبغي أن يحكم عمل مؤسسة فكرية تعمل في مجال فض النزاعات و تطوير العمل الديبلوماسي ، ويضع التقرير تحت طائلة اتهامات بالتوجيه المُسبَق.
كما تظهر علامات الخلل المنهجي جلية في الاعتماد على سردية أحادية الجانب في الوقائع الميدانية، حيث يوحي التقرير بأنه صيغ بناءً على “سردية المخابرات الجزائرية”، و بالتالي فإن أي تقصي للحقائق متوازن و سليم و منطقي و علمي كان سيتطلب فحص الحوادث الأمنية والاشتباكات الحدودية عبر عدسات متعددة، وليس الاكتفاء برواية طرف يسعى لتأطير خصمه في موقع المعتدي ، هذا الافتقار للتوازن يُضعف بشدة من قدرة التقرير على توجيه صانعي القرار الدولي، ويجعله مجرد وثيقة دعاية مُؤدلجة بدلاً من أن يكون أداة تحليل استراتيجي.
إن أخطر ما في الإحاطة هو هجومها الضمني بل المباشر على المواقف الترافعية للمملكة، حيث يوصف الموقف المغربي تجاه وحدته الترابية بأنه يتجه نحو “التشدد والمغالاة” ، و المواقف المغربية الداعية إلى إنهاء بعثة المينورسو أو تقييم و إعادة هيكلة سياقها السياسي و الإجرائي أو تصنيف البوليساريو بالإرهاب بأنها صادرة عن “متشددين” يهددون الاستقرار الإقليمي ، وعلى هذا الأساس فإن الإحاطة تتجاهل بذلك مبدأ السيادة والحق في الدفاع المشروع عن الوحدة الترابية، اللذين هما ركائز القانون الدبلوماسي. هذا التجاهل يتعدى الإطار الدبلوماسي ليلامس مبادئ القانون الدولي الإنساني نفسه، والذي يؤكد على حماية السكان المدنيين ورفض اللجوء إلى القوة أو التحريض على النزاع، وهو ما يتناقض مع أي دعم ضمني لأطروحات الانفصال التي قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار والأمن الإقليمي.
الواقع أن الموقف المغربي، الذي يسعى لحل سياسي عبر مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، هو موقف استباقي ومسؤول تاريخياً وقانونياً، وليس تصلباً. وقد ترسَّخ هذا الموقف بفضل الاعترافات الدبلوماسية الدولية المتزايدة – ومن أبرزها الاعتراف الأمريكي بالسيادة الكاملة للمغرب على صحرائه وتزايد عدد القنصليات التي افتتحتها دول مختلفة في مدينتي العيون والداخلة. وتعزيزاً لهذا التوجه، فقد عبرت أكثر من 120 دولة عن دعمها للمبادرة المغربية للحكم الذاتي، من بينها أكثر من 30 دولة أوروبية، وهو ما يؤكد على جدية و عقلانية المقترح المغربي فإ تهام الموقف المغربي بالمغالاة لا يعكس سوى رغبة التقرير في تقويض الركائز القانونية والدبلوماسية للمملكة لصالح موقف يعطي وزناً أكبر لأطروحات الانفصال التي تتغذى من الانسداد السياسي وتخالف تيار الشرعية الدولية المتجه نحو الحل الواقعي والعملي، كما هو محدد في قرارات مجلس الأمن الدولي منذ عام 2007، والتي تعتبر الحكم الذاتي الأساس الوحيد للمفاوضات.بين مختلف الأطراف في هذا النزاع الإقليمي المفتعل .
مسألة “إعفاء الجزائر من المساءلة” تضع علامة إستفهام كبيرة حول حيث تُصوّرها الإحاطة كـ”مراقب” محايد للنزاع بدلاً من اعتبارها طرفاً رئيسياً وراعياً لجبهة البوليساريو بالتمويل و التدريب و التسليح و الحماية الدولية و الديبلوماسية ، هذا الإغفال المتعمد ينتج عنه خلل تحليلي صارخ؛ إذ توجّه الإحاطة جل التوصيات والضغوط نحو المغرب والبوليساريو والقوى الدولية، بينما يتم إعفاء الجزائر من أي مسؤولية مباشرة أو التزام بتقديم تنازلات. هذا التجاهل يُنظر إليه على أنه إنحياز سياسي متعمد يُقوّض فرص التوصل إلى تسوية شاملة، ويضمن استمرار الجمود الذي يخدم استراتيجية الجزائر بشكل فعال.
في نفس السياق تُصر الإحاطة على غموض شرط “تقرير المصير الموثوق به”؛ فبالرغم من إشارتها إلى خطة الحكم الذاتي المغربية كإطار محتمل، إلا أنها تفرض شرطاً غامضاً وغير محدد بدقة قابلة للتطبيق الدبلوماسي. وهذا الغموض المريب يُحوّل هذا التعبير إلى نقطة خلاف دائمة تستغلها البوليساريو لعرقلة أي اتفاق بحجة عدم كفاية التنازلات. وهكذا، تُقوّض الإحاطة فرص الحل الجذري وتُرسّخ إطاراً نظرياً يُبقي الباب مفتوحاً أمام استمرار الجمود، مُفضّلة بذلك الإدارة الطويلة الأمد للنزاع على حسمه ؛ من جهة أخرى، تعمّدت الإحاطة المبالغة في التهويل من سيناريوهات التصعيد العسكري، محذّرة بشكل متكرر من أن أي تغيير في الوضع الراهن أو المساس ببعثة المينورسو قد يُؤدي إلى مواجهة مباشرة بين المغرب والجزائر. حيث يهدف هذا التهويل أساساً إلى الضغط على القوى الدولية لحماية ولاية بعثة المينورسو، مُرَكّزاً بذلك على إدارة النزاع والحفاظ على الهدوء السطحي، وليس توجيه الجهود الدولية نحو الحل السياسي الدائم والاستفادة من الفرص الدبلوماسية المتاحة حالياً.
على نفس المنوال فالتسامح المتعمد في الإحاطة لتورط ميليشيا البوليساريو في أفعال خارجة عن القانون يؤكد على القصور الأمني الصارخ في تقييم النزاعات الإقليمية لدى مجموعة الازمات الدولية، وتحديداً من خلال حالة مخيمات تندوف، حيث أن الإطار التحليلي الحالي للإحاطة يرتكز على زاوية سياسية ضيقة ومباشرة، متجاهلاً الأبعاد الأمنية العابرة للحدود وغير التقليدية. هذا الإغفال الأمني المتعمد يشكل نقطة ضعف تحليليَّة حرجة تستوجب إعادة تقييم جذرية، حيث فشلت الإحاطة أو التقييم في دمج الروابط المعقدة والمترابطة بين هذه المخيمات وقضايا الأمن الإقليمي الأساسية. وتشمل هذه القضايا: الإرهاب العابر للحدود، من خلال الروابط المحتملة لتجنيد الأفراد واستغلال الفضاءات غير الخاضعة للسيطرة، والجريمة المنظمة، ممثلة في شبكات التهريب، بما في ذلك الأسلحة والمخدرات والبشر، التي تستغل حالة عدم الاستقرار و حالة اللايقين ، و الأدهى أن هذه الأنشطة تساهم في التهريب في منطقة الساحل، مما يحول المخيمات إلى نقاط ارتكاز أو عبور لتمويل التطرف وزعزعة الاستقرار في المنطقة بأسرها ،و هذا التجاهل ليس مجرد خطأ عارض، بل هو قصور تحليلي منهجي يؤدي إلى تضييق نطاق المخاطر، حيث يتم تقييم النزاع كصراع إقليمي ثنائي (بين المغرب والجزائر) فحسب، بدلاً من التعامل معه كتهديد وجودي متعدد الأطراف يمتد تأثيره ليشمل المصالح الدولية.
و على هذا الأساس فالتجاهل المنهجي للأبعاد الأمنية غير التقليدية يُشكل في جوهره عملية تجاهل لـ “قنبلة موقوتة” تهدد استقرار المنطقة بأسرها وتُعرض المصالح الدولية للخطر. فالقصور التحليلي الحالي، الذي يقتصر على الزاوية السياسية المباشرة، يقدم تقييماً ضعيفاً وغير شمولي للمخاطر المحيطة بالنزاع، بل ومُفتقراً إلى العمق اللازم لفهم التحديات الأمنية الحقيقية التي تتجاوز مجرد الصراع الإقليمي الثنائي. فإهمال التفاعلات الأمنية المعقدة بين النزاع الإقليمي المفتعل وبين الإرهاب والجريمة المنظمة والتهريب في الساحل يساهم بشكل مباشر في تفاقم هذه التهديدات. وعليه، فإن الخلاصة الاستراتيجية تُشدد على ضرورة التحول نحو إطار تحليلي أكثر شمولية للمخاطر. هذا الإطار المستقبلي يجب أن يُعطي وزناً متساوياً للأبعاد الأمنية غير التقليدية و ويتحول من تقييم ضيق إلى نظرة استراتيجية متعددة الأطراف ، معترفاً بأن النزاعات الإقليمية، خاصة تلك المرتبطة بمخيمات تندوف، ليست مجرد خلافات سياسية بل هي بؤر محتملة لتفاقم التهديدات الأمنية الإقليمية والعالمية.
ختاما و من خلال قراءة نقدية معمقة و دقيقة لتقرير / إحاطة مجموعة الأزمات الدولية الأخيرين ، فإننا نصل مفارقة دبلوماسية مقلقة وذات أبعاد إستراتيجية: فبدلاً من أن يرتقي هذا العمل الأكاديمي ليكون نبراساً للوساطة السلمية الفاعلة والمحايدة، فإنه انزلق ليصبح مجرد غطاء أكاديمي مُحكَم الصياغة لخدمة الأجندات الجزائرية في شمال إفريقيا ، فهذا الغطاء الأكاديمي، الموشوم بلغة الحياد الزائفة، يتخذ من البحث المحكم قناعاً لإخفاء دوافعه السياسية العميقة، وهدفه الحقيقي هو إضفاء الشرعية على إدامة و تكريس حالة الجمود الإقليمي المعقد.
فالتغاضي الصارخ والمُتعمّد عن الدور المحوري للجزائر – باعتبارها المُموّل والمُحتضن الرئيسي لجبهة البوليساريو والطرف الثابت في معادلة النزاع – مقابل توجيه سيل المطالب والضغوط بشكل شبه حصري نحو الأطراف الأخرى، يضع علامة استفهام ضخمة ومُزلزلة حول نزاهة المؤسسة ومهنيتها الاستشارية. هذا الانحياز المنهجي الواضح، أعتبره “نُكوصا دبلوماسيا” لا يليق بمؤسسة من هذا العيار، و لا يمثل سوى تأطيراً جيوسياسياً مُصمماً بعناية، يخدم أجندة خفية ومحددة، ويُفضي في المحصلة إلى إعفاء طرف فاعل أساسي من التزاماته ومسؤولياته التاريخية والأخلاقية تجاه تسوية النزاع هو النظام الجزائري ، حيث تحول التقرير من أداة تحليل رصين إلى منصة لترجيح كفة على حساب أخرى في تنصل تام للمعايير الأكاديمية الرصينة .

