قبل سنة ونصف عجز وادي ملوية بالمغرب، عن بلوغ مصبه في البحر الأبيض المتوسط، للمرة الأولى في تاريخ المملكة.
واقعة العجز شكلت دليلا ماديا لنشطاء البيئة لتأكيد مخاوفهم وشكوكهم بخصوص التراجع المستمر لتدفق مياه الوادي، بل ولتأكيد وضعية العجز المائي الذي وصلت إليه البلاد.
ويعد “ملوية” أحد أكبر الوديان في البلاد، إذ يبلغ طوله نحو 600 كلم، وينبع من جبال الأطلس المتوسط والكبير وجبال الريف، ويصب في البحر المتوسط.
في خضم النقاش حول السبب، كان يعزى الأمر دائما إلى تراجع التساقطات المطرية، أو التغيرات المناخية التي تلقي بظلالها على العالم بأسره.
لكن في المقابل، هل التغيرات المناخية وحدها ما أثر في تراجع تدفق مياه وادي ملوية إلى الحد الذي عجز عن بلوغ مصبه؟
مصب وتدفق إيكولوجي
في 1996، صنف مصب وادي ملوية ضمن المناطق الرطبة، وبعدها بنحو 10 سنوات، وتحديدا في 2005، أدرج ضمن لائحة “رامسار” (الاتفاقية الدولية لحماية المناطق الرطبة).
لعل أكثر ما أثار مخاوف نشطاء البيئة إبان واقعة العجز، أنه هدد بشكل مباشر وجود المصب، فهو ليس عاديا، بل كان على الدوام من المصبات التي تعج بالتنوع البيولوجي والغنى الإيكولوجي، وعدم بلوغ المياه منتهاها يعني نهاية الحياة للعديد من الطيور المهاجرة والكائنات المستوطنة.
وقال الناشط البيئي والمهندس الزراعي محمد بنعطا، إن “هذا الموقع البيولوجي حظي بأهمية دولية نظرا لما يضمنه من تنوع سواء الطيور التي يستقطبها أو الأسماك النادرة التي تحيا بين ثناياه، وغيرها من الكائنات”.
وأضاف بنعطا، أنه “بالنظر إلى هذه الأهمية، خصوصا أن المملكة وقعت عدة اتفاقيات للحفاظ على التنوع البيولوجي، فهي ملزمة بالحفاظ على التدفق الإيكولوجي، بما يضمن الحياة في المصب”.
وترجع وسائل إعلام محلية ودولية استنادا إلى آراء خبراء ومزارعين تراجع قوة تدفق مياه وادي ملوية إلى الإفراط في استهلاك مياهه، من خلال ثلاثة سدود ومحطتين للضخ، فضلا عن الاستغلال غير الرسمي لفلاحين في سقي مزروعاتهم خاصة التي تتطلب كميات كبيرة من المياه.
سد “مشرع الصفصاف“
على بعد نحو 30 كلم من مصب النهر، تخطط الدولة لإنشاء سد آخر، يُضاف إلى سدود موجودة فعليا على النهر منذ عقود، ضمنها سد مشرع حمادي، الذي شيد في 1956 بطاقة تخزين تقدر بـ6.6 ملايين متر مكعب.
السد الجديد، من بين المشاريع التي تضمنها خطة الدولة (2020ـ2027) لمواجهة آثار شح الأمطار، أو ما يعرف في جهة الشرق “بالجفاف الهيكلي”.
إذ يتوخى السد الذي سينجز بمنطقة “مشرع الصفصاف” بمحافظة الناظور (شمال شرق)، ضمان التزود بمياه الشرب والسقي، بقدرة تخزين تصل إلى 620 مليون متر مكعب.
فانعكاس التغيرات المناخية على التساقطات المطرية حقيقة لا ينكرها أحد، وهو ما يؤكده أيضا الناشط البيئي بنعطا، الذي يعتقد أيضا أن ما يجعل هذه التغيرات تلقي بظلالها أكثر في البلاد وسائل توفير الإمكانيات المائية، بما يتناسب مع طبيعة المواد الفلاحية المنتجة، والتي تكون في الغالب مستهلِكة للمياه.
في خضم النقاش المحتدم في الأوساط البيئية والسياسية حول تراجع التدفق، وجهت النائبة عن كتلة حزب الاستقلال فطيمة بن عزة، في وقت سابق، سؤالا كتابيا لوزير التجهيز والماء نزار بركة، حول التأثير المحتمل لهذا السد وبخاصة على التدفق الإيكولوجي.
الوزير بركة، أوضح في رده، أن خطط النشاط ستعمل على “ضمان الصبيب الإيكولوجي سافلة السد.. وكذا اقتراح تدابير تنظيمية لمتابعة جل التأثيرات البيئية”.
وأضاف الوزير أن “وكالة الحوض المائي لملوية قامت في 2018 بدراسة تقييم الطلب على الماء بحوض ملوية، ومن بين محاور هذه الدراسة محور الطلب على الماء المتعلق بالوسط الإيكولوجي لمصب ملوية”.
وتابع “تبين أن الصبيب اللازم لسريان المياه في الوادي هو 1 متر مكعب، وهو صبيب يمكن المحافظة عليه بعد إنشاء سد الصفصاف”.
رغم هذه التطمينات فإن الزيارة التي قادت بنعطا أخيرا إلى موقع السد، دفعته إلى تأكيد أن السد سيشكل تهديدا حقيقيا للتدفق، لأنه سيقف حاجزا أمام مياه العيون المنتشرة على ضفاف النهر، والتي تغذيه بالمياه.
وأضاف أن تشييد هذا السد يعني القضاء تماما على التدفق الإيكولوجي، وهو ما يعني أن مياه الوادي لن تصل إلى المصب.
ضخ عام وخاص
في تسعينيات القرن الماضي، شيدت وزارة الفلاحة محطة ضخ المياه بمنطقة الشويحية التابعة لمحافظة بركان ، وفي 2020 أطلقت الوزارة محطة ضخ جديدة لضخ مياه الوادي في قنوات الري لضمان المياه للمستثمرين في القطاع الفلاحي.
محطات الضخ هذه توجد في النطاق السفلي للنهر، على بعد كيلومترات من المصب.
وإذا كانت الأولى كما يؤكد بنعطا، تضخ حوالي 3.5 أمتار مكعبة في الثانية من أصل تدفق يقدر بنحو 7 أمتار مكعبة في الثانية توفرها عيون المياه على الضفاف، فإن المحطة الثانية كما تؤكد معطيات وزارة الفلاحة تضخ 1.5 متر مربع.
رغم أن الناشط البيئي يشير إلى أن نسبة الضخ في المحطة الثانية، كما عاينها، أكبر من ذلك.
الواقع أن الضخ العام أو الضخ الرسمي، هو نصف الحقيقة في عملية استغلال مياه الوادي بالضخ.
فعلى طول عدة كيلومترات من الوادي عاينت الأناضول تجهيزات ومضخات بعضها يحتاج إلى عشرات من أسطوانات الغاز لتشغيلها لساعات، تعود ملكيتها لمزارعين قرروا أخذ “حصصهم” من المياه مباشرة من الوادي دون اتباع أي إجراءات قانونية.
لكن أنواع المنتجات الفلاحية التي يزرعها الفلاحون، على غرار البطيخ بصنفيه الأحمر والأصفر من النوع الذي يستهلك كميات كبيرة من المياه ويسرع من خطى القضاء على تدفق مياه الوادي.
كل هذه المعطيات تدفع المراقبين إلى دق ناقوس الخطر، فإن كانت التغيرات المناخية واقعا يؤثر بشكل واضح في التدفق، فإن باقي العوامل الأخرى تسرع من تراجعه، وقد تؤدي إلى القضاء عليه.