عندما يتحدث الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي عن “وعاء الاشتراكات”، فالأمر لا يتعلق بضريبة جديدة أو إجراء مالي معقد، بل بأساس بسيط: تحديد ما يدخل ضمن الأجر الذي تُقتطع منه المساهمات الاجتماعية التي تموّل التقاعد، والتأمين الصحي، والتعويضات العائلية.
لكن خلف هذا الأساس “البسيط” تختفي آلية دقيقة تُرهن مصير مئات الآلاف من المغاربة في علاقتهم بحقوقهم المستقبلية، وتُشكل أحد الأعمدة التي تُبنى عليها ثقة المواطن في الدولة.
القرار رقم 1314.25، الذي بدأ تطبيقه مطلع أكتوبر 2025، لم يأتِ من فراغ. بل يُعد جزءا من ورش أوسع لإصلاح وتوسيع منظومة الحماية الاجتماعية، بعد تعميم التأمين الإجباري عن المرض على المهن الحرة، والفئات الهشة، وعدد من العاملين غير الأجراء.
فكلما توسعت المنظومة، ازدادت الحاجة إلى توحيد القواعد وتبسيط المساطر وضمان العدالة بين المنخرطين. حيث كان من غير المقبول أن يستمر الغموض في تحديد الأجر الخاضع للاقتطاع، بينما يُطلب من الجميع المساهمة بجدية في تمويل الحماية الاجتماعية.
وجاء القرار الجديد ليضع حدا لتفاوتات عمرت طويلا، حيث كان بعض المشغلين يحتسبون التعويضات المنتظمة (كمنح النقل أو الأداء أو الأقدمية) ضمن الأجر، بينما يعمد آخرون إلى استثنائها، ما جعل منظومة الاشتراكات غير متوازنة. فكانت النتيجة غياب عدالة داخلية في احتساب الحقوق، وارتباك لدى أجهزة المراقبة، بل وأحياناً نزاعات قضائية تُستنزف فيها المؤسسات والأجراء معًا.
وقد حددت الصيغة الجديدة بدقة العناصر التي تُدرج في الوعاء: الأجر الأساسي، التعويضات القارة، والمنح التي تُصرف بانتظام.
في المقابل، تم إعفاء التعويضات ذات الطابع العرضي أو الرمزي، مثل منح الأعياد أو التعويض عن المهام المؤقتة، شريطة أن لا تكون متكررة أو خاضعة لمنهجية احتساب ثابتة.
ويكمن جوهر هذا التمييز في حماية مصلحة الطرفين: الأجير الذي يُفترض أن تُحتسب كل مداخيله المنتظمة في بناء معاشه أو تأمينه الصحي، والمشغل الذي يحتاج إلى وضوح مالي وتنبؤ قابل للتدبير.
لكن هذا التحديد لم يكن ليكفي وحده. لذلك حرص الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي على إعداد دليل توضيحي رقمي، يُفصل بدقة كل تعويض وهل يدخل ضمن الوعاء أم لا، ويشرح المعايير التي يجب أن تُعتمد لتفادي التأويل الخاطئ.
كما أعلن عن تنظيم لقاءات جهوية موجهة لأرباب المقاولات وممثلي الموارد البشرية، لتأطير التنزيل العملي للقرار، وتفادي المفاجآت عند أول مراقبة أو افتحاص.
ما تغيّر ليس فقط مضمون الوعاء، بل أيضا الفلسفة التنظيمية التي تحكم علاقة الدولة بمقاولاتها ومواطنيها.
فالمقاربة الجديدة تقوم على الشفافية والوضوح المسبق، لا على الغموض ثم الزجر. كما أن القرار يُعبّر عن تحول أعمق في تدبير الحماية الاجتماعية: من منطق “المساهمات المفروضة” إلى منطق “الحقوق المُستحقة المرتبطة بمساهمات واضحة”. وهذا التحول، وإن بدا تقنياً، يُعيد رسم أفق العلاقة بين المواطن ومؤسساته الاجتماعية.
من الناحية العملية، يُنتظر أن يُسهم القرار في تقليص حالات التصريح غير الكامل، وتعزيز الثقة في نظام التقاعد، ورفع مستوى وعي الأجراء بأجورهم المصرّح بها. فعدد كبير من الأجراء يكتشفون عند بلوغ سن التقاعد أن معاشهم أقل بكثير من توقعاتهم، فقط لأن جزءًا كبيرًا من دخلهم لم يُصرّح به كمكوّن من مكونات الأجر القار. الوعاء الجديد يسعى لتقليص هذه الهوة، دون أن يثقل كاهل المقاولة.
وفي السياق نفسه، تأتي هذه الخطوة بالتوازي مع مشاريع رقمية أخرى أطلقها الصندوق، من بينها منصة “بوابة المقاولة” التي تسمح بالتصريح المندمج والرقابة الذاتية، مما يجعل من تحديث الوعاء الاشتراكي ليس فقط قرارًا تقنيًا، بل لبنة في مشروع إصلاحي أشمل يتوخى استعادة ثقة المجتمع في النظام الاجتماعي المغربي.

