في تصعيد خطير يعكس اضطرابا متزايدا في سلوك النظام الجزائري، دخلت العلاقات بين الجزائر ومالي منعطفا جديداً ينذر بتداعيات أمنية وسياسية غير مسبوقة على مستوى منطقة الساحل وشمال إفريقيا.
واندلعت شرارة الأزمة بعدما اتهمت باماكو الجيش الجزائري باستهداف طائرة استطلاع مسيّرة تابعة للقوات المالية، أثناء مهمة مراقبة قرب الحدود المشتركة، وهي سابقة خطيرة في تاريخ التوترات بين البلدين.
ورغم أن الجزائر التزمت الصمت بداية، فإنها سرعان ما ردّت بإغلاق مجالها الجوي أمام جميع الطائرات القادمة من مالي أو المتوجهة إليها، مدنية كانت أو عسكرية، في خطوة بدت أقرب إلى فرض عقاب جماعي على دولة جارة، بدل انتهاج قنوات التوضيح أو الوساطة.
غير أن باماكو لم تتأخر في الرد، فأصدرت وزارة النقل والبنى التحتية المالية بلاغا أعلنت فيه إغلاق أجواء البلاد أمام الطائرات الجزائرية، متهمة النظام الجزائري بوضوح برعاية الإرهاب الدولي، في اتهام غير مسبوق في حدّته ضمن الأعراف الدبلوماسية الإفريقية.
لكن هذه المواجهة الدبلوماسية، رغم رمزيتها وخطورتها، ليست سوى عرض من أعراض نهج توسعي بات يطبع السياسة الخارجية للجزائر، التي تحاول اليوم فرض منطق القوة والوصاية على محيطها الإفريقي، عبر افتعال الأزمات واستعراض العضلات العسكرية والدبلوماسية.
فقد اعتادت الجزائر، منذ عقود، تقديم نفسها كركيزة للاستقرار في المنطقة. غير أن الواقع الميداني يروي قصة مغايرة تماماً. فمن الأزمة المستمرة مع المغرب، إلى التحركات المشبوهة في النيجر، وصولا إلى التدخل السافر في شؤون مالي، يُظهر النظام العسكري الجزائري نزوعا متسارعا إلى خلط الأوراق وتصدير أزماته الداخلية إلى الخارج، من خلال تأزيم العلاقات الثنائية وإرباك التوازنات الجيوسياسية.
ويندرج الحدث الأخير في هذا السياق المأزوم. فبدلا من فتح تحقيق مشترك أو تفعيل قنوات التنسيق العسكري، فضّل صانع القرار في الجزائر الرد على اتهام مالي بإغلاق الأجواء والتصعيد السياسي والإعلامي، في مشهد يُذكّر بطرق إدارة الصراعات في زمن الحرب الباردة، لا في إفريقيا القرن الحادي والعشرين.
وأخطر ما في هذا التصعيد أنه يأتي في وقت بالغ الحساسية بالنسبة لمنطقة الساحل، التي تعاني أصلا من تمدد الجماعات المسلحة، وتراجع التنسيق بين حكوماتها، وفشل المبادرات الإقليمية في بناء جدار أمني جماعي. ويُخشى أن يؤدي هذا التوتر الثنائي إلى انهيار ما تبقى من آليات العمل المشترك، في فضاء يُفترض أن يتّجه نحو التكامل بدل الاصطفاف.
مالي، التي وجدت نفسها في قلب هذا التصعيد، اختارت هذه المرة لغة غير مألوفة في التعاطي مع جارٍ متغطرس. فاتهامها الصريح للجزائر بدعم الإرهاب لم يكن مجرد انفعال سياسي، بل رسالة مفادها أن زمن الخضوع لمنطق الوصاية قد ولّى، وأن باماكو اليوم تدير علاقاتها الخارجية انطلاقاً من سيادتها، لا من توازنات تفرضها العواصم الأخرى.
في المقابل، يجد النظام الجزائري نفسه في موقع حرج، بعدما باتت سياساته مكشوفة أمام شركائه الإقليميين والدوليين. فالغموض الذي يلف تحركاته، والغطرسة التي تطبع ردوده، باتا يهددان بفقدان ما تبقى من صدقيته كطرف يمكن الوثوق به في معادلة الاستقرار.
في المحصّلة، يظهر أن الجزائر، عوض أن تساهم في إخماد بؤر التوتر، باتت تشعلها واحدة تلو الأخرى. ومع انسداد الأفق الدبلوماسي، وتصاعد وتيرة العداء، يبقى السؤال معلقاً: إلى أين سيمضي النظام الجزائري بالمنطقة؟ وهل يُعقل أن تصبح شمال إفريقيا والساحل رهينة نزوات نظام يرفض أن يقرأ الزمن السياسي الجديد؟