في ظل تصاعد التوترات التجارية بين الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين، بات المغرب في موقع يسمح له بالاستفادة من تحولات كبرى في خريطة الاستثمار العالمية، بعدما فرضت واشنطن رسوما جمركية مرتفعة على مجموعة من السلع القادمة من دول الاتحاد الأوروبي، مقابل معاملة تفضيلية لبلدان أخرى في الجوار المتوسطي، على رأسها المملكة المغربية.
ووفق ما أوردته صحيفة إل موندو الإسبانية، فإن المغرب وجبل طارق خضعا لرسوم جمركية عامة لا تتجاوز 10%، وهي النسبة الدنيا في النظام الحمائي الأميركي الجديد، وأقل من تلك التي فُرضت على إسبانيا، ما يجعل الرباط في موقع متقدم كمركز بديل لإعادة التموقع الصناعي والتجاري نحو السوق الأميركية.
هذا التحول لا يُقرأ فقط من زاوية الأرقام، بل يعكس دينامية أوسع تُعيد رسم معادلات الاستثمار جنوب المتوسط، وتفتح المجال أمام المغرب ليرسّخ دوره كفاعل اقتصادي صاعد في بيئة دولية مضطربة.
فبينما تنشغل العواصم الأوروبية بتقييم تداعيات السياسات الحمائية الأميركية، تتحرك الرباط بهدوء لاقتناص الفرص، مستفيدة من اتفاق التبادل الحر الذي يجمعها بواشنطن منذ سنة 2005، ومن استقرار مؤسساتي مكنها من تطوير قدرات صناعية متقدمة في مجالات مثل السيارات، الأسمدة، والمعدات الكهربائية، وهي القطاعات نفسها التي تضررت فيها الصادرات الإسبانية بفعل الرسوم الجديدة.
وتنقل إل موندو عن بول أمبرغ، الشريك في مكتب Baker McKenzie بمدريد، أن مكاتب المحاماة المتخصصة في التجارة الدولية شهدت ارتفاعا كبيرا في الاستشارات المتعلقة بتأثير الرسوم، خصوصا في ما يخص تكلفة الامتثال وسبل الحد من الأثر المالي.
وأضاف أن “العديد من الشركات باتت تدرس سلاسل الإمداد بطريقة أكثر استراتيجية، بالنظر إلى أن استدامة هذه الرسوم قد تدفعها لإعادة توزيع الإنتاج نحو أسواق أقل كلفة على المستوى الجمركي”، معتبراً أن المغرب يبرز في مقدمة هذه البدائل المحتملة.
ولا تقتصر مزايا المغرب، حسب المصدر ذاته، على الرسوم المنخفضة، بل تشمل أيضاً عاملي القرب الجغرافي والمرونة التنظيمية، وهو ما جعله يزاحم الموانئ الإسبانية في عدد من الخدمات والأنشطة المرتبطة بالتصدير نحو أميركا الشمالية.
وتشير إل موندو إلى أن الفوارق في المعايير البيئية ومتطلبات الاستدامة، التي تُفرض في أوروبا، تجعل من الكلفة التشغيلية في المغرب أكثر تنافسية، خصوصاً في القطاعات التي تحتاج إلى هامش ربح أوسع لمواجهة تقلبات السوق الدولية.
ويرى خافيير دياز-خيمينيز، أستاذ الاقتصاد في معهد IESE الإسباني، أن الشركات التي تتوفر سلفا على وحدات إنتاجية في المغرب ستجد في هذا الوضع فرصة للتوسع، دون الحاجة إلى نقل شامل أو إعادة بناء استثماراتها من الصفر.
وقال للصحيفة: “إذا كنت تنتج أصلاً في المغرب، فالتوسيع أسهل بكثير من البدء من جديد في مكان آخر”، مشيراً إلى أن هذا النوع من “التحكيم الاستثماري” سيصبح أكثر حضوراً في قرارات كبرى الشركات الصناعية خلال السنوات القادمة.
رغم ذلك، تحذر مار غوارديولا، مديرة قسم الضرائب في شركة Andersen، من أن إعادة هيكلة سلاسل التوريد لا تتم بين عشية وضحاها، بل تستلزم سنوات من التخطيط وتنفيذ الاستثمارات، غير أن المغرب، بفضل شراكاته الدولية ووضعه المميز في الاتفاقيات الجمركية، يبدو مهيأ أكثر من غيره لتسريع هذا المسار، خاصة إذا ما اقترنت الجاذبية التجارية بالاستقرار السياسي ووضوح القوانين.
وترجّح الصحيفة الإسبانية أن تأثير هذه الرسوم لن يقتصر على التبادل التجاري المباشر، بل قد يعيد توجيه جزء من حركة الصادرات والاستثمارات التي كانت تمر عبر إسبانيا نحو المغرب، وهو ما يشكل، في نظرها، تحدياً بنيوياً على المدى المتوسط للقدرة التنافسية الأوروبية في المنطقة. ومع أن قوانين التجارة الأميركية تمنع تقنيات “إعادة التوسيم” أو تمرير السلع عبر بلدان ثالثة لتفادي الرسوم، فإن المغرب لا يحتاج إلى هذا النوع من الوساطات، كونه بلد إنتاج فعلي، وليس مجرد منصة عبور.
وفي المقابل، يطرح هذا التحول أسئلة حادة على مستوى الجوار المغاربي، لا سيما في الجزائر وموريتانيا، حيث لا تزال بيئة الأعمال تواجه صعوبات مزمنة تعيق جذب الاستثمارات الكبرى. وفي الوقت الذي تضع فيه الرباط نفسها ضمن سباق دولي على التموقع الصناعي، تبدو العواصم المجاورة متأخرة بخطوات، ما قد يعمّق من الفوارق الإقليمية خلال السنوات المقبلة.
وبينما يشدد بعض المحللين على ضرورة عدم الارتهان للسوق الأميركية وحدها، فإن المغرب يبدو اليوم في موقع يسمح له بالاستفادة من هذا التوجه، دون أن يغفل عن تنويع شركائه. وتختم غوارديولا بالقول: “الولايات المتحدة تشكل 25% فقط من الناتج العالمي… أما الـ75% المتبقية، فهي التي يجب أن تبني عليها الشركات نماذجها الاقتصادية المستقبلية”.