من الوعود الانتخابية إلى المخططات الحكومية والمقررات الجماعية، يظل المواطن المغربي يتلقى دفعات متتالية من التطمينات: “كل شيء مخطط له”، “كل شيء قيد الإنجاز”، “كل شيء سيتغير قريبا”.
لكن الواقع، منذ زمن، يعارض هذه الشعارات بصمت يومي: في الحافلة التي لا تأتي، في الماء الذي ينقطع، في الشهادة التي لا تفتح باب رزق، وفي المستوصف الذي لا طبيب فيه.
وحده الملك محمد السادس كسر هذا الإيقاع الممل، وقرر أن يسائل الجميع باسم الوطن. ففي خطاب افتتاح البرلمان، لم يختر عبارات مجاملة، بل استعمل قاموسا دقيقا، لا يحتمل التأويل: “تغيير ملموس في العقليات”، “ترسيخ حقيقي لثقافة النتائج”، “معطيات ميدانية دقيقة”، “محاربة الممارسات التي تضيع الوقت والجهد والإمكانات”… هذه ليست استعارات أدبية، بل تشخيص صريح لحالة دولة تشتغل كثيرا وتنجز قليلا.
ولأن المواطن بات يحفظ الوعود أكثر من الأناشيد، فإن دعوة الملك إلى تقييم البرامج لا إعلانها، وإلى قياس الأثر لا سرد الميزانيات، هي تقاطع نادر بين نبض الشارع وصرامة رأس الدولة. فقد استشعر الملك نبض المواطن الصامت، وحوّله إلى لغة مساءلة
قالها بوضوح: “لا ينبغي أن يكون هناك تناقض أو تنافس بين المشاريع الكبرى والبرامج الاجتماعية”. لكنه لم يخف أن هذا التناقض واقع يومي، ناتج عن فاعلين يعتقدون أن المغرب يتحمل كل شيء: تأخر الإنجاز، رداءة التنفيذ، وموت الالتزام في دهاليز البيروقراطية.
من يتولون مسؤولية التنفيذ لم يساءلوا بعد عن جدوى برامج أنفقت الملايير دون أثر يقنع الساكنة. ولم يجب أحد عن سبب تعثر المراكز القروية الناشئة التي وعد بها العالم القروي، ولا عن تآكل القانون المتعلق بالساحل بين النصوص والواقع، فيما تستمر الفوضى العمرانية على الشواطئ بلا رادع.
إن خطاب الملك لم يلق في فراغ. بل وجه إلى نخبة يفترض أنها تعرف أن ولايتها تنتهي، وأن الزمن السياسي لا يقاس بعدد الدورات، بل بما تغير في حياة الناس. ومرة أخرى، تُذكرهم المؤسسة الملكية بأن التمثيلية لا تعني الحصانة، وبأن من يتكلم باسم المواطن لا يُعفى من الحساب أمامه.
فالمنتخب الذي لا يخرج من مكتبه إلا وقت الحملة، والوزير الذي يجيد التغريد أكثر من التصور، والمسؤول الذي يعيد نفس البرامج بصيغة جديدة، جميعهم أصبحوا اليوم أمام خطاب لا يترك لهم مخرجا. إما أن ينتجوا أثرا حقيقيا، أو يغادروا بصمت.
إن جيل Z، الذي يستهلك المحتوى بسرعة الضوء، لم يعد يصدق الخطاب الطويل. بل يريد خدمات فورية، واضحة، ملموسة. يريد أن يرى الفرق بين “قبل” و”بعد”، لا أن يسمع تفاصيل المشروع بل أن يستفيد منه. وهذا ما عبر عنه الخطاب بعبارة دقيقة: “التغيير يتطلب ثقافة نتائج، مبنية على معطيات دقيقة، وباستعمال التكنولوجيات الرقمية”.
ومن لم يفهم الرسالة بعد، فليراجع القسم الأخير من الخطاب: “إن السنة التي نحن مقبلون عليها، حافلة بالمشاريع والتحديات… فكونوا رعاكم الله، في مستوى الأمانة الملقاة على عاتقكم.”
فالأمانة هنا لم تعد معنوية فقط، بل سياسية وأخلاقية وتاريخية.