في الأنظمة السياسية التي ترتكز على مرجعيات راسخة، لا تكون الملكية مجرد سلطة من بين سلط، بل هي عماد استقرار، وضمانة توازن، وإطار جامع للدولة ومؤسساتها.
وفي الحالة المغربية، لا يمكن فهم سير الدولة أو تماسكها خارج هذا الإطار. فالمؤسسة الملكية ليست فاعلا سياسيا ينافس، ولا هيئة حكومية تخضع للمساءلة، بل مرجعية ضامنة تشتغل فوق الاصطفاف، وضمن منطق الدولة لا خارجه.
وانطلاقا من هذا، يظهر خطأ فادح في مضمون الرسالة التي وجهتها مجموعة شباب “جيل زد” إلى الملك، والتي وإن حملت مطالب اجتماعية وسياسية، فإنها تضمنت انزلاقات دستورية صارخة، وأسلوبا لا يراعي مقاما سياديا يحكمه الإجماع، ويؤطره دستور واضح، وتاريخ موصول بشرعية البيعة والمؤسسات.
المطالبة بإقالة الحكومة، وحل الأحزاب، والإفراج عن معتقلين، وترؤس الملك لجلسة مساءلة علنية، ليست فقط مطالب تخرج عن نطاق الدستور، بل تتعمد تحويل المؤسسة الملكية إلى جهاز تدخل مباشر في تدبير الاختلالات، وتغفل أن موقع الملك هو ضمان الاستمرارية وليس إدارة التفاصيل.
فالملك، بحكم الفصل 42 من الدستور، ضامن استقلال البلاد ووحدتها، وحسن سير المؤسسات، وليس طرفا في التدافع السياسي أو الاجتماعي.
والملكية في المغرب ليست أداة تنفيذ، ولا رديفا لحكومة، ولا بديلا عن الأحزاب. هي فوق ذلك بكثير. صلاحياتها لا تمارس بناء على ضغوط ظرفية، ولا تنجر إلى مساحات العجز المؤسساتي. بل إن محاولة الزج بها في أدوار تتجاوز مقامها، تمس جوهر النظام السياسي، وتعرض الاستقرار للتشويش الرمزي والمؤسساتي في آن.
ثم إن الجهة التي توجه هذه المطالب لا تملك تمثيلية، ولا شرعية، ولا مسارا تنظيميا واضحا. لأنها ترفض التنظيم من حيث المبدأ، وتنكر على الأحزاب دورها، وتعمل خارج الأطر القانونية، ثم تتجه إلى أعلى مؤسسة في البلاد لتطلب قرارات مركزية بمفعول رجعي.
هذا تناقض لا يمكن التغاضي عنه. فالدولة لا تشتغل بمنطق الانفعال، والمؤسسة الملكية ليست مخاطبا مفتوحا لكل من رفض الوساطة وبحث عن التأثير عبر المنصات.
إن مخاطبة الملك بلغة المطالب التنفيذية، كيف ما كان مصدرها، تمثل خطرا مزدوجا: فهي من جهة تخلط بين الوظائف الدستورية للسلط، ومن جهة أخرى تفرغ المقام الملكي من رمزيته التاريخية والسياسية.
والملكية، في السياق المغربي، لم تكن يوما مؤسسة إجرائية، بل كانت دائما حكما فوق المؤسسات، وضمانة للاستمرارية، ورمزا للوحدة. ومن أراد الإصلاح، فلا مناص له من المرور عبر المؤسسات، لا من تجاوزها.
لقد اختار المغرب منذ دستور 2011 نموذجا ملكيا ديمقراطيا متوازنا. فيه فصل للسلط، ووضوح في التراتب، واستقلال للوظائف، وضمانات للمحاسبة.
أما تحويل الملك إلى منصة ضغط، أو مخاطبته كفاعل سياسي مباشر، فذلك نسف لروح النص، ومساس بموقع الضمان الجماعي.
الملكية ليست مجالا للضغط، ولا ساحة للمساومة، ولا غطاء لعجز مؤسساتي أو لمزايدات ظرفية. من أراد التعبير، فليحتكم إلى ما تتيحه الدولة من أدوات. أما من اختار القفز على كل شيء، فلا يحق له أن يجعل من المؤسسة الملكية مدخلا لتمرير أجندته.
ملك المغرب ليس حلا لأعطاب الغير، ولا بديلا عنهم، ولا طرفا في صراعاتهم. إنه فوق الجميع، بحكم الدستور، وبحكم التاريخ، وبحكم الوفاء الوطني العميق. وكل من حاول الاقتراب من هذا المقام بمنطق المطالبة أو المزايدة، سقط في وهم لا يخدم لا الديمقراطية، ولا العدالة، ولا الاستقرار.