في لحظة لم تعد بحاجة إلى البيان، عاد الحق ليأخذ مكانه، وانزاح الوهم دون ضجيج. لم يكن المغرب ينتظر من مجلس الأمن أن “يعترف”، بل فقط أن يُسجّل ما لم يتغيّر منذ نصف قرن: أن الأرض ثابتة، والمشروع السياسي المغربي هو وحده الذي بقي واقفا حين تهاوت كل البنى الوهمية.
خمسون سنة من الصمود في وجه طرح انفصالي بهذه الشراسة، لا توزن بالأصوات، بل بتراكم الدلالة. فقد اختار المغرب أن يُراكم لا أن يُناور، أن يبني لا أن يُقايض، فصارت مبادرته السيادية للحكم الذاتي إطارا وحيدا يُقاس به ما هو “جاد” وما هو دون ذلك.
فحين يثبت الحق، لا تعود الحاجة للتفنيد. وعندما تنهار كل الأطروحات الأخرى، لا يُقال إن المغرب انتصر في معركة دبلوماسية، بل إن الحقيقة استعادت وضوحها بعد طول غشاوة.
وهنا فقط يصدق الشعار الذي افتتح به الراحل الحسن الثاني إعلان المسيرة الخضراء: “قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا”. آية كريمة صدَحت ذات يوم من الرباط إلى العيون، وها هي تعود اليوم كخاتمة لمسار لم يتبدّد.
فالمغرب لم يراهن على الخطابة، بل على البناء. ولم ينتظر التزكية، بل أدار أوراشا من التنمية جنوبا، وأسّس لإفريقيا مستقبلًا، بينما انشغل آخرون بالجمود والعرقلة وتكديس الخطابات. لم يكن المشروع المغربي ردّ فعل، بل تصميما استراتيجيا على خوض الزمن بقوة المبادرة لا بمنطق التنازع.
ولأن المغرب ظل صامدا، لم يعد يُطلب منه أن يُقنع، بل صار يُحتذى به. من الرباط إلى الداخلة، من طنجة إلى الكويرة، نسجت الدولة روايتها بالفعل لا بالبلاغات، حتى صار خصومها يُدركون أن الصحراء لم تعد “نزاعا”، بل منصة مغربية للتنمية، للتكامل، وللهدوء السيادي الذي لا يصرخ.
وفي لحظة الحسم الأممي، لم يأتِ المغرب ليقدّم مرافعة، بل ليُمرّر الرسالة التي قالها الراحل الحسن الثاني ذات يوم: “لا ننتظر من العالم أن يعترف بسيادة المغرب على صحرائه، فنحن في صحرائنا”. هي العبارة التي اختصرت كل الفصول. واليوم، أعاد مجلس الأمن إنتاجها بصياغة أممية، لأن الباطل لا يصمد حين ينهار تحت ثقله.
أما الذين بنوا عقودا من الوهم، فلم يخسروا معركة في نيويورك، بل أضاعوا مستقبل منطقة. لأن النزاع لم يُكلف المغرب مشروعه، بل كلف الحلم المغاربي وحده سنواتٍ من الضياع، وحدودا مغلقة، وأجيالا لم تعرف معنى الوحدة. لم تكن معركة على جغرافيا، بل ورطة وجودية لطرف اختار الرهان على اللاشيء، بينما ظل المغرب يبني ما بعد الانتصار قبل أن يعلنه.
أما المغرب، فقد صبر. لم يركض خلف الاعترافات، ولم يعلّق مستقبله على موقف عابر. ظل يبني، إلى أن لم يعد ممكنًا تجاوز ما بناه. وحين حان زمن الاعتراف الأممي، لم يكن إعلانًا عن انتصار، بل تسجيلًا متأخرًا لواقع لم يُفارقه.
واليوم، كما البارحة، تشرق الحقيقة في صحراء المغرب، لا كتتويج دبلوماسي فحسب، بل كتكريس سيادي لمسار استثنائي. مسار لم يُصنع من ضجيج المرافعات، بل من صبر البناء وإرادة الدولة. وحين تتبدّد الأوهام، ويزهق الباطل، لا يبقى إلا المشروع الذي لم يخن منطقه.

