وضع قرار مجلس الأمن رقم 2797 ملف مخيمات تندوف في صلب المعادلة السياسية للصحراء، بعد عقود من التهميش الدبلوماسي، فيما يواجه عشرات الآلاف من السكان مصيرا معلقا في منطقة رمادية قانونيا على الحدود الجزائرية.
القرار الصادر في 31 أكتوبر 2025، الذي أكد على مبادرة الحكم الذاتي المغربية كـ”مرجعية واقعية” وحيدة، ووضع الجزائر كطرف رئيسي في المفاوضات، أعاد طرح أسئلة حارقة حول الوضع القانوني والإنساني لتجمعات سكانية أنشئت كملاذ مؤقت عام 1975 وتحولت إلى واقع دائم يمتد لنصف قرن.
وفي قلب هذا الجدل السياسي والقانوني، تبرز أولا إشكالية الإحصاء التي تعكس حجم الغموض المحيط بالمخيمات.
فبينما تصر البوليساريو على رقم 200 ألف نسمة، تقدر دراسات مستقلة، بينها تحليلات للاتحاد الأوروبي ومنظمات إنسانية، العدد الفعلي بين 90 و120 ألفا، في ظل غياب تعداد أممي مستقل منذ إنشاء المخيمات يجعل من المستحيل التحقق من الأرقام الرسمية.
وهذا الغموض الإحصائي ليس مجرد إشكال تقني، بل يرتبط مباشرة بآلية توزيع المساعدات الإنسانية. فقد أشارت منظمات دولية في تقارير داخلية إلى تضخيم منهجي للأعداد لزيادة حصص المعونات، مع تسجيل أطفال بأسماء متعددة وإدراج متوفين في القوائم.
ورغم أن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، التي تدير برامج إغاثة في المخيمات منذ عقود، طالبت مرارا بإجراء إحصاء شامل، إلا أن مطالبها اصطدمت برفض متكرر يعمق الشكوك حول حقيقة الأوضاع هناك.
منطقة رمادية قانونيا
وبالتوازي مع إشكالية الأرقام، يطرح الوضع القانوني لمخيمات تندوف حالة فريدة في القانون الدولي للاجئين. فالسكان مسجلون رسميا كلاجئين لدى المفوضية، لكنهم يعيشون في منطقة لا تخضع بالكامل لا للسيادة الجزائرية ولا للإشراف الأممي الكامل.
والواقع أن الجزائر، كدولة مضيفة، توفر الأرض والبنية الأساسية، لكنها تترك الإدارة اليومية للبوليساريو، التي تمارس سلطة فعلية مطلقة على حياة السكان دون أن تكون دولة معترفا بها دوليا. وقد خلق هذا الترتيب الهجين فراغا قانونيا يتيح انتهاكات موثقة دون محاسبة واضحة.
وفي هذا الإطار، وثقت تقارير لمنظمات حقوقية، بينها “روبرت ف. كينيدي لحقوق الإنسان” و”فرانس ليبرتيه”، قيودا صارمة على حرية التنقل. فالسكان يحتاجون تصاريح لمغادرة المخيمات، بينما تواجه العائلات التي تحاول الفرار مطاردة وعقوبات تصل إلى الاعتقال والمحاكمة أمام “محاكم عسكرية” تابعة للبوليساريو.
كما تحدثت شهادات موثقة لعائدين من المخيمات عن “نظام مراقبة شامل” يحد من التواصل مع العالم الخارجي، ويفرض رقابة على الزيارات، ويمنع أي نشاط سياسي معارض. وإلى جانب ذلك، يتعرض الشباب لضغوط مستمرة للتجنيد، فيما تبقى النساء محرومات من حقوق أساسية في مجتمع محافظ تحكمه قيادة عسكرية.
ومما يفاقم هذه الأزمة الإنسانية أن المخيمات، التي أنشئت في أواخر 1975 كملاذ مؤقت لبضعة أشهر، تحولت مع تجمد النزاع إلى كيان شبه دائم، مع بنية إدارية وتعليمية وصحية موازية. ونتيجة لذلك، ولدت ثلاثة أجيال وكبرت داخل المخيمات، والجيل الأخير يكبر الآن في يأس متزايد، محاصر بين خطاب سياسي جامد وواقع اقتصادي قاسٍ.
فالواقع أن فرص العمل شبه معدومة خارج الوظائف الإدارية التابعة للبوليساريو، في حين يخضع التعليم لمنهج أيديولوجي يركز على “النضال” أكثر من المهارات العملية. وقد خلق الاعتماد الكامل على المساعدات الإنسانية ثقافة اتكالية، بينما نادرا ما يعود الشباب الذين يحصلون على منح دراسية في الخارج، ما يعكس عمق الأزمة التي تواجه هذه التجمعات.
ورغم خطورة هذا الوضع، فإن الاستجابة الدولية تظل محدودة. فقد عبرت المفوضية السامية في تقاريرها السنوية عن “قلق عميق” من الأوضاع في تندوف، مشيرة إلى غياب “معايير الحماية الدولية الأساسية”، لكن قدرتها على التدخل تبقى محدودة بالرفض الجزائري لأي مراقبة موسعة. بل إن محاولات سابقة لتوسيع ولاية بعثة المينورسو لتشمل مراقبة حقوق الإنسان في المخيمات اصطدمت بفيتو جزائري مدعوم من حلفاء إقليميين.
وفي الوقت نفسه، تواجه منظمات إنسانية دولية تعمل في المخيمات قيودا على الوصول إلى مناطق معينة، وتخضع لرقابة صارمة على تقاريرها، حتى أن بعضها فضل الانسحاب على المساومة على معاييرها، بينما اختار بعضها الآخر الصمت مقابل استمرار العمل.
دعوة ملكية وصمت جزائري
وفي هذا السياق المعقد جاءت دعوة الملك محمد السادس لسكان المخيمات، التي حملت أبعادا متعددة ومتكاملة. فعلى المستوى السياسي، مثلت الدعوة محاولة لكسر احتكار البوليساريو للتمثيل والحديث باسم سكان المخيمات، بينما قدمت على المستوى الإنساني بديلا عمليا لواقع مغلق يمتد لنصف قرن، فيما وضعت دبلوماسيا الكرة في ملعب الجزائر والمجتمع الدولي.
وقد تضمن الخطاب الملكي ضمانات محددة: عودة طوعية آمنة، إدماج تدريجي دون تمييز، واستفادة من برامج التنمية الجارية في الأقاليم الجنوبية. ويستند هذا الطرح إلى سابقة عملية تتمثل في آلاف العائلات التي عادت على مدى السنوات الماضية، بعضها عبر برامج رسمية وبعضها بطرق فردية، واندمجت بالفعل في النسيج الاجتماعي والاقتصادي.
غير أن العودة الجماعية تطرح، على الجانب الآخر، تحديات لوجستية وسياسية معقدة. فآليات التحقق من الهوية، إعادة الإدماج الاقتصادي، التعويضات المحتملة، وضمانات عدم الملاحقة لمن كان منخرطا في البوليساريو، كلها مسائل تحتاج ترتيبات دقيقة قبل أن تتحول الدعوة إلى واقع ميداني.
وأمام هذه الدعوة، تواجه الجزائر، التي أصبحت لأول مرة مسماة صراحة في قرار أممي كطرف رئيس، معضلة حقيقية. فالاعتراف بالمسؤولية عن المخيمات يعني تحمل الالتزامات القانونية كدولة مضيفة، بما في ذلك ضمان حقوق اللاجئين وفق المعايير الدولية، بينما يعرضها الاستمرار في الوضع الحالي لضغوط متزايدة ومساءلة دولية.
ويعكس الصمت الجزائري على الدعوة الملكية، إلى جانب غياب أي إشارة إلى خطوات عملية لتحسين الأوضاع في المخيمات، تعقيد هذا الموقف. فالجزائر استثمرت خمسة عقود وموارد ضخمة في دعم البوليساريو، والتراجع الآن يعني إقرارا ضمنيا بفشل استراتيجي يصعب تقبله سياسيا.
ومن جهتها، تجد البوليساريو نفسها في أضعف مواقفها منذ عقود. فخيار الاستفتاء، الذي بنت عليه خطابها طوال سنوات، لم يعد مطروحا في الأدبيات الأممية، بينما تقلص الدعم الدولي بشكل حاد، مع اعترافات متتالية بمغربية الصحراء أو فتح قنصليات في العيون والداخلة. وهكذا تحولت المخيمات، التي كانت ورقة ضغط، إلى عبء أمني وإنساني يصعب تبريره.
وفي ظل هذه المعطيات، يبدو السيناريو الأرجح استمرار الوضع القائم مع تدهور تدريجي. فالمساعدات الدولية تتقلص مع تزايد الأزمات العالمية، بينما تتدهور الأوضاع الإنسانية، ويتفاقم اليأس بين الشباب، ما قد يؤدي إلى تدفق أكبر للراغبين في المغادرة، فرديا أو جماعيا.
ومع ذلك، قد تحمل التقارير المقبلة للأمين العام للأمم المتحدة، المتوقعة في النصف الأول من 2026، إشارات أوضح لضرورة معالجة البعد الإنساني. بل إن بعض الدول الأعضاء في مجلس الأمن بدأت بالفعل تطرح أسئلة مباشرة حول الأوضاع في المخيمات، بعيدا عن الصمت الدبلوماسي المعتاد.
وهكذا، فإن مخيمات تندوف، التي ظلت لعقود هامشا في المعادلة السياسية، أصبحت تدريجيا في القلب. والسؤال لم يعد فقط عن مستقبل الصحراء سياسيا، بل عن مصير عشرات الآلاف من البشر الذين ولدوا وكبروا في انتظار حل لم يأت، ويواجهون الآن منعطفا قد يغير واقعهم المعلق منذ نصف قرن.
							
