منذ اعتلائه العرش سنة 1999، قاد الملك محمد السادس تحولا مفصليا في مقاربة المغرب لقضية الصحراء، انتقل بها من منطق الدفاع إلى منطق المبادرة، ومن خطاب الشرعية التاريخية إلى هندسة الشرعية التوافقية، مع ما رافق ذلك من تثبيت لمبادرة الحكم الذاتي كمرتكز رئيسي في السياسة الخارجية للمملكة.
ومع بداية الألفية، وضع الملك محددات رؤية استراتيجية جديدة، تتجاوز النزاع العقيم إلى أفق سياسي واقعي، يقوم على السيادة الوطنية من جهة، والانفتاح على التفاوض ضمن الشرعية الدولية من جهة أخرى.
ومن هذه الرؤية، انبثقت مبادرة الحكم الذاتي التي طرحها المغرب سنة 2007 كحل عملي دائم، يستجيب لمعايير الأمم المتحدة ويعيد صياغة منطق التسوية خارج ثنائية الانفصال أو الاندماج.
وقد اعتمد العاهل المغربي في ذلك مقاربة قائمة على الثبات في المبادئ والمرونة في الوسائل، وهو ما أتاح للرباط فرض مرجعيتها السياسية دون صدام، وتعزيز مصداقيتها الدولية دون تنازل.
وشيئا فشيئا، تحولت المبادرة المغربية من مقترح تفاوضي إلى مرجعية معترف بها من قبل مجلس الأمن، الذي وصفها منذ القرار 1754 بـ”الجدية وذات المصداقية”، وهي الصيغة التي تكررت في جميع قراراته اللاحقة حتى سنة 2024.
*من الطرح النظري إلى التنزيل الميداني*
ولم يكتف المغرب أمام المنتظم الدولي بالطرح النظري للمبادرة، بل باشر تنزيل مضمونها عبر مشاريع تنموية كبرى شملت الأقاليم الجنوبية، من بينها النموذج التنموي الذي انطلق سنة 2015 بميزانيات ضخمة تجاوزت ثمانية مليارات دولار، وبنيات تحتية استراتيجية غيرت ملامح المنطقة.
وقد تحولت مدينتا العيون والداخلة إلى واجهتين لهذا التحول، تجسدان تصور المملكة لحكم ذاتي عملي ضمن السيادة الوطنية، في وقت شدد فيه الملك في خطاباته على أن مغربية الصحراء “حقيقة ثابتة لا نقاش فيها”، مؤكدا أن المبادرة المغربية تشكل الإطار الوحيد الممكن لتسوية النزاع.
وفي خطاب عيد العرش لسنة 2025، عبر العاهل المغربي عن اعتزازه بـ”الدعم الدولي المتزايد” لهذه المقاربة، في إشارة إلى التحولات النوعية التي شهدتها الدبلوماسية المغربية على هذا الملف.
وعلى الصعيد الدبلوماسي، مكنت المبادرة الرباط من إعادة رسم موازين القوى، إذ أعلنت دول كبرى على غرار الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا وألمانيا دعمها الصريح للمقترح المغربي، معتبرة إياه أساسا واقعيا وجديا لأي حل ممكن، وبالموازاة مع ذلك، شهد الخطاب الانفصالي تراجعا ملحوظا في المنتديات الدولية، بعد أن أصبح مفتقرا إلى البديل السياسي القابل للتطبيق.
*نحو قطب أطلسي-إفريقي صاعد*
وتحت القيادة الملكية، لم تعد قضية الصحراء مجرد ملف نزاع إقليمي، بل تحولت إلى رافعة لتثبيت مشروع السيادة الحديثة، كما أكد ذلك الملك في خطاب المسيرة الخضراء 2024، حين دعا الأمم المتحدة إلى “التمييز بين العالم الحقيقي والشرعي، الذي يمثله المغرب في صحرائه، وبين عالم متجمد، بعيد عن الواقع وتطوراته”.
وفيما تواصل الدبلوماسية المغربية تحركاتها المكثفة في العواصم والهيئات الدولية، يتمدد حضور المبادرة ميدانيا، ليس فقط من خلال المؤسسات المحلية والمجالس الجهوية، وإنما أيضا عبر استثمارات متزايدة في الطاقات المتجددة والموانئ والبنيات البحثية، ما حول الأقاليم الجنوبية تدريجيا إلى قطب أطلسي–إفريقي صاعد.
وفي المحصلة، شكلت مبادرة الحكم الذاتي، كما صيغت وفق الرؤية الملكية، نقطة تحول حاسمة في مسار الصحراء المغربية، حيث بات المغرب يفاوض من موقع المبادر لا المدافع، ويؤسس نموذجا تنمويا وسياسيا قابلا للتطبيق، بمرجعية أممية ودعم دولي متنام، ليبقى السؤال المطروح اليوم ليس حول جدوى المبادرة، بل حول سرعة تنزيلها في ظل معطيات إقليمية ودولية متحولة.
وبين الشرعية التاريخية والنجاعة الميدانية، تتعزز مكانة المبادرة كجوهر للمشروع السيادي المغربي، وكمخرج واقعي لنزاع طال أمده.
