في ما يشبه المتلازمة الاتصالية، يواصل الإعلام الجزائري الرسمي وشبه الرسمي استحضار المغرب كمرآة عاكسة لأوهام التفوق، في خطاب يعكس قلقا بنيويا من تحول المملكة إلى قطب إقليمي صاعد يراكم المكاسب الدبلوماسية والاقتصادية في محيط يعاني من الارتباك.
وفي واحدة من أحدث تجليات هذا الهوس الإعلامي، نشرت صحيفة “الشروق” المحسوبة على دوائر النظام العسكري في الجزائر مقالاً وظّفت فيه تصريحات منسوبة للاعب الدولي إسماعيل بن ناصر، مرفقة بعنوان مثير يفيد بأن “الجزائر أفضل من المغرب”، في محاولة لإحياء سردية الاستعلاء الرمزي، بدل تقديم معالجة صحفية موضوعية أو متوازنة.
ولا تُعد هذه الحملة المعنونة بالمقارنة مع المغرب سلوكا طارئا، بل تندرج ضمن مسار تصاعدي يسعى من خلاله إعلام النظام الجزائري إلى صرف انتباه الرأي العام الداخلي عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، عبر توجيه البوصلة نحو ما تسميه الجزائر بـ”العدو الكلاسيكي”، رغم أن المغرب لطالما أكد، في خطاباته الرسمية، أنه لا يرد على الاستفزاز بالمثل، وأن تركيزه منصب على تثبيت السيادة الترابية وتحصين النموذج التنموي الوطني.
ومنذ أن أطلق المغرب دينامية دبلوماسية واسعة النطاق لتعزيز مكانته في القارة الإفريقية، وتأكيد عمقه الأطلسي، دخل الإعلام الجزائري في سباق مفتوح على التشكيك والتقليل من إنجازات الرباط، سواء تعلق الأمر بإعادة انتخاب المملكة داخل مجلس السلم والأمن الإفريقي، أو بترسيخ الاعتراف الدولي بمغربية الصحراء.
ويعتبر مراقبون مغاربة أن هذا الانشغال المزمن بالمغرب يفضح غياب مشروع جزائري متكامل في القارة، خاصة بعد فشل محاولات التأثير عبر آلية البوليساريو، وانكشاف تراجع الحضور الجزائري داخل المنتديات الإقليمية والدولية، حيث لم يعد يُنظر إلى الجزائر كشريك استراتيجي موثوق، بقدر ما يُتعامل معها كفاعل متشنج ومهووس بالمقاربات الصفرية.
ويُلاحظ أن وتيرة المقارنة مع المغرب تتسارع كلما حققت المملكة اختراقا ديبلوماسيا أو اقتصاديا، سواء تعلق الأمر باتفاقيات التعاون الثلاثي مع الولايات المتحدة وإسرائيل، أو بمخطط الربط الطاقي مع نيجيريا، أو بتعزيز تموقع المغرب كحلقة محورية في إعادة تشكيل ممرات التجارة العالمية بين إفريقيا وأوروبا.
وفي وقت تواصل فيه وسائل الإعلام الجزائرية تصدير هذا الخطاب المهووس بالمغرب، تركز الصحافة المغربية على ملفات التنمية، والاستثمار، والسياسات العمومية، وهو ما يعكس تباينا في أولويات الأجندة الإعلامية بين بلد يراكم المكاسب، وآخر يطارد أطياف الخصومة.
ويذهب العديد من المحللين في المغرب إلى اعتبار هذا الخطاب المهووس بالمملكة شكلا من أشكال العجز المؤسساتي عن إنتاج نموذج تنموي قابل للتسويق داخليا وخارجيا، حيث يتحول المغرب، بما يراكمه من منجزات دبلوماسية واستراتيجية، إلى “عقدة مستعصية” في سردية إعلامية جزائرية تبحث عن نقاط ارتكاز وهمية لتبرير حالة الانكماش السياسي والاقتصادي التي تعيشها البلاد.
وفي مقابل الانخراط المغربي الهادئ في تحالفات استراتيجية متوازنة مع قوى دولية كبرى، تبدو الجزائر غارقة في خطاب استقطابي يرتكز على فكرة “الاصطفاف العقائدي” والمظلومية التاريخية، وهو ما يجعل إعلامها الرسمي يُعيد إنتاج مفردات الحرب الباردة في زمن التكتلات الاقتصادية الذكية.
وتبدو هذه المفارقة أكثر جلاء حين يتعلق الأمر بالتعاطي مع ملفات مثل الصحراء المغربية، إذ أن الإعلام الجزائري لا يتوانى عن تجنيد موارده للدفاع عن طرح انفصالي متآكل، في الوقت الذي تؤكد فيه المملكة نهجها الواقعي المدعوم باعترافات متوالية من قوى إقليمية ودولية وازنة.
كما لا يفوت الإعلام الجزائري أي فرصة لتضخيم أحداث عابرة داخل المغرب، أو تقديم قراءات مشوهة لتقارير اقتصادية صادرة عن مؤسسات دولية، في محاولة لبناء صورة سلبية عن الاستقرار السياسي والمؤسساتي الذي تنعم به الرباط، وهو سلوك لا يلقى صدًى داخل الرأي العام المغربي، الذي بات أكثر وعياً بأساليب التوجيه الإعلامي المعتمدة شرق الحدود.
ولا تتوقف المقارنة عند حدود الشأن الدبلوماسي أو السياسي، بل تمتد لتشمل مجالات الرياضة، والفنون، والتكنولوجيا، بل وحتى الكوارث الطبيعية، كما حصل عقب الزلزال الذي ضرب إقليم الحوز في شتنبر 2023، حين اختار الإعلام الجزائري التركيز على مَن قَبِل المغرب مساعدته ومَن رفض، بدلا من التعبير عن تضامن إنساني حقيقي.
ويؤكد، هذا التوجّه بحسب متابعين، أن النظام الجزائري يراهن على إبقاء المغرب حاضرا بشكل سلبي في وعي المواطن الجزائري، باعتباره “الآخر المنافس” و”السبب الخارجي” في تعثرات الداخل، عوض مساءلة السياسات العمومية التي تسببت في تآكل القدرة الشرائية، وتراجع الاحتياطي النقدي، وشلل المبادرات الدبلوماسية في العمق الإفريقي.
وفي الوقت الذي يُراكم فيه المغرب أدوات القوة الناعمة في القارة، عبر مبادرات تنموية ومراكز تكوين ومشاريع بنى تحتية ووساطات سياسية، ما يزال الخطاب الجزائري أسير ثنائية “نحن وهم”، وهي ثنائية تنهار تدريجياً أمام واقع دولي لا يعترف سوى بالنجاعة والتأثير والاستقرار.
ويخشى مراقبون من أن يؤدي هذا الخطاب المتشنج إلى تسميم العلاقة بين الشعبين، خصوصا في ظل هيمنة الفضاء الرقمي على التلقي الإعلامي، وازدياد وتيرة الاستقطاب في المنصات الاجتماعية، ما يستدعي، وفق تعبير فاعلين مدنيين في البلدين، تأسيس جبهة يقظة إعلامية وأخلاقية تنأى عن هذا الهوس، وتنتصر لقيم الجوار والتاريخ المشترك.
وفي الانتظار، يواصل الإعلام الجزائري إعادة إنتاج نفس السؤال الوجودي: لماذا يتقدم المغرب؟ والجواب، وإن لم يُكتب في افتتاحياته، واضح في الخلفية… لأنه ببساطة، لا ينشغل بالجزائر.