امتدّت التعبيرات الاحتجاجية التي فجّرها شباب في مدن مغربية كبرى إلى دائرة النقاش السياسي، بعد أن فرضت حضورها خارج القنوات التقليدية، ووضعت الأحزاب أمام اختبار غير مألوف.
وخلال أقل من أربع وعشرين ساعة، صدرت بلاغات من ثلاثة أحزاب رئيسية، بدا أنها تستبق احتمالات التصعيد، لكنها كشفت في الوقت ذاته حدود المخيلة الحزبية حين يتعلق الأمر بجيل لا ينتظر إذنًا للتعبير ولا يثق كثيرًا في بلاغات جاهزة.
واختار حزب التقدم والاشتراكية، الذي تبنّى منذ خروجه من الحكومة خطابًا اجتماعيا نقديا، الدفاع عن شرعية التعبير السلمي، داعيا إلى الإنصات للشباب واحتضان مطالبهم.
وفي بلاغ رسمي، وصف هذه المطالب بـ”المشروعة”، معتبرا أن التعاطي معها يجب أن يتم في إطار يحافظ على سلمية الأشكال الاحتجاجية، ويُجنّب البلاد منزلقات العنف أو المسّ بالممتلكات.
غير أن موقف الحزب الذي يقوده نبيل بن عبد الله، لم يقدّم أي تصور عملي لتجاوز الإحباط الاجتماعي، واكتفى بتوصيف المأزق دون الخروج منه.
أما حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي يقود الحكومة منذ انتخابات 2021، فقد حاول بدوره إرسال إشارات انفتاح، مؤكدا استعداده لـ”الانخراط في النقاش العمومي” واعتبار “الإنصات مدخلًا لتفعيل السياسات العمومية”.
لكنه حرص في الوقت ذاته على الإشادة بـ”المقاربة الأمنية المتوازنة”، مُبرزا احترام القانون، في ما بدا دفاعا استباقيا عن أداء الحكومة. ولم يتضمن موقف الحزب أي التزام ملموس، بل ظهر وكأنه يوازن بين التهدئة وتثبيت شرعية المؤسسات.
أما حزب العدالة والتنمية، الذي ترأس الحكومة لعقد من الزمن، فقد قدّم قراءة سياسية أكثر حدّة، واعتبر أن ما يجري هو “غضب مشروع” ناتج عن تدهور اجتماعي واقتصادي عميق.
ودعا إلى وقف التصعيد بعد أن “بلغت الرسالة مداها”، محمّلًا الحكومة الحالية مسؤولية تعميق الفوارق وتهميش الشباب. لكنه، بدوره، لم يقدّم مراجعة صريحة لفترة مشاركته في السلطة، التي ما زالت تحضر في ذاكرة المحتجين.
رغم اختلاف النبرة، اصطفت المواقف الثلاثة في مربع رمادي واحد: الاعتراف بالمطالب، التحذير من الانفلات، والتلويح بالحوار، دون عرض بدائل مؤسساتية حقيقية. بدا الخطاب الحزبي متردّدًا، عاجزًا عن مغادرة قوالبه التقليدية، وأكثر حرصًا على احتواء اللحظة منه على الاستجابة لها.
وتجلّت المفارقة في أن هذه التشكيلات الحزبية، التي تطلب اليوم التهدئة، كانت فاعلة بشكل مباشر أو غير مباشر في إنتاج السياسات التي فجّرت هذا التوتر. فحزب الأحرار لم يغادر دوائر القرار منذ أكثر من عقد، والعدالة والتنمية قاد التحالف الحكومي طوال عشر سنوات، والتقدم والاشتراكية لم يفك ارتباطه بالمؤسسات التنفيذية إلا مؤخرًا.
تعبيرات الشارع هذه المرة لم تمر عبر أحزاب أو نقابات، بل انطلقت من مساحات رقمية حرّة، حملت مطالب واضحة بلغة بسيطة. وهو ما أعاد إلى الواجهة أسئلة متراكمة حول مأزق الوساطة، وتآكل الثقة، وتراجع قدرة الأحزاب على تأطير الأجيال الصاعدة.
وفي وقت يُنتظر فيه من القوى السياسية تطوير أدواتها، يبدو أن ما عُرض حتى الآن لا يتجاوز مفعول البلاغات، ولا يرقى إلى مستوى تحوّل سياسي يعيد رسم العلاقة مع الشباب. فبقاء الحوار معلقًا، واستمرار الخطاب الرمادي، لا يفعلان سوى إعادة إنتاج نفس الهشاشة التي يرفضها الشارع.

