بعدما حسمت لغة الأرقام موقع المغرب كأول شريك تجاري لإسبانيا خارج الاتحاد الأوروبي، جاء الإعلان عن رفع مدريد تمويلها لمحطة تحلية المياه الكبرى بالدار البيضاء إلى 340 مليون يورو ليعكس منطقا جديدا في العلاقات الثنائية: منطق يقوم على الاستثمار النوعي لا الاكتفاء التبادلي.
ويشكّل التمويل الجديد الذي خصصته الحكومة الإسبانية، عبر أدواتها المالية العمومية والخاصة، امتدادا مباشرا لتحوّل استراتيجي في السياسة الاقتصادية لإسبانيا تجاه المغرب، إذ لم تعد العلاقات محصورة في التصدير والاستيراد، بل باتت قائمة على تمويل المشاريع الكبرى والمساهمة في بنائها، بما يعكس مستوى الثقة في البيئة الاستثمارية المغربية.
وفي مشروع تحلية المياه في الدار البيضاء، حيث تتجاوز الكلفة الإجمالية 620 مليون يورو، تتولى شركة “أكسيونا” الإسبانية قيادة الأشغال، بشراكة مع فاعلين مغاربة، لتأمين إنتاج سنوي يصل إلى 300 مليون متر مكعب من المياه، لفائدة أكثر من 7 ملايين نسمة.
المشروع لا يحمل فقط بعدا بيئيا وإنمائيا، بل يأتي في سياق توجّه إسباني واضح لتأمين موطئ قدم قوي في الاقتصاد المغربي المتسارع.
ولم يتوقف الانخراط الإسباني عند مشاريع الماء، بل شمل أيضاً قطاع النقل السككي، إذ أعلنت مدريد، في فبراير الماضي، عن تمويل بقيمة 750 مليون يورو لاقتناء 40 قطارا عالي الأداء من شركة CAF الإسبانية، ضمن خطة المغرب لتوسيع شبكته الحديدية استعدادا لاحتضان مباريات كأس العالم 2030.
وتندرج هذه العملية في إطار مقاربة تشاركية تُمكن الشركات الإسبانية من الاستفادة من الطلب المتزايد في السوق المغربية، مقابل توفير تمويلات ميسّرة مرتبطة بمشاريع ذات أولوية استراتيجية.
وبين المياه والسكك، يتأكد أن مدريد، التي صدّرت إلى المغرب ما يفوق 12,8 مليار يورو خلال سنة 2024، أصبحت أكثر حرصا على تعزيز حضورها الاقتصادي في المملكة، خاصة في ظل تصاعد المنافسة الإقليمية، وعودة الاهتمام الدولي بإفريقيا جنوب الصحراء، حيث يلعب المغرب دور البوابة. وفي هذا الإطار، تسعى إسبانيا إلى تجاوز كل من فرنسا والإمارات في حجم الاستثمارات داخل المملكة.
ولتأمين هذه المشاريع، اعتمدت الحكومة الإسبانية آليات تمويل مختلفة، من بينها ضمانات صادرة عن وكالة Cesce، وقروض من صندوق FIEX، بالإضافة إلى خطوط تمويل بشروط تفضيلية توجه للشركات الإسبانية المنخرطة في مشاريع بالمغرب.
ويُترجم هذا الإسناد المالي الرغبة الرسمية في ترسيخ العلاقات الاقتصادية عبر أدوات ملموسة، دون الاكتفاء بالرهانات الدبلوماسية أو التصريحات السياسية.
ويوجد حاليا أكثر من 350 شركة إسبانية تنشط في السوق المغربية، في قطاعات تتنوع بين البناء، الطاقة، النقل، الصناعات التحويلية، والخدمات.
ومع تسارع المشاريع الكبرى التي أطلقها المغرب في أفق مونديال 2030، فإن هذا الرقم مرشح للارتفاع، خاصة في ظل الاستقرار السياسي والنمو المتوازن الذي يطبع الاقتصاد الوطني.
ويُنظر إلى هذه التحركات الإسبانية كجزء من سياسة تموقع أوروبي جديدة تُعيد الاعتبار لدول الجنوب القادرة على تأمين شراكات طويلة الأمد.
وفي هذا السياق، يقدَّم المغرب بوصفه حالة فريدة في شمال إفريقيا، تجمع بين متطلبات الجاذبية الاقتصادية ومقومات الاستقرار الجيو-سياسي.
ويتقاطع هذا التموضع الإسباني الجديد مع استراتيجية مغربية أوسع، تقوم على تنويع الشراكات دون الارتهان لمحور واحد، ما يفتح المجال أمام نموذج متوازن للعلاقات الخارجية.
فالمغرب الذي نجح في بناء قاعدة صناعية قوية في قطاعات السيارات والطيران والطاقة المتجددة، لم يعد مجرد سوق تقليدي لتصريف المنتجات الأوروبية، بل تحوّل إلى منصة إنتاج إقليمية، تستقطب الفاعلين الدوليين من موقع الشراكة لا التبعية.
وتعكس المشاريع الإسبانية الأخيرة وعيا متزايدا لدى مدريد بأهمية إدماج مصالحها الاقتصادية في المنظومة التنموية المغربية، خاصة في ظل تطورات جيواقتصادية تجعل من المغرب رقما صعبا في معادلة الشمال-الجنوب.
فبينما تعاني الضفة الشمالية من تباطؤ اقتصادي وشيخوخة سكانية، يراهن الاتحاد الأوروبي، ضمنيا، على بلدان مثل المغرب لضمان استقرار سلاسل التوريد ومواكبة التحولات المناخية والديمغرافية.
وفي هذا السياق، تأتي التمويلات الإسبانية كجزء من سياسة أوسع لحشد الأدوات المالية العمومية من أجل توسيع النفوذ الاقتصادي في دول الجوار. وهي سياسة تنخرط فيها أيضا شركات التأمين والتصدير الإسبانية، التي أصبحت تنظر إلى المغرب كأرضٍ آمنة للمغامرة الاستثمارية، بل وكمجال لتدويل المقاولات الصغرى والمتوسطة الإسبانية الباحثة عن فرص خارج السوق الأوروبية المشبعة.
من جهته، يراكم المغرب أوراق القوة بهدوء، معززا قدرته التفاوضية ومكانته الجيوستراتيجية، مستفيدا من استقرار مؤسساته ومن انخراطه في أوراش كبرى جعلت منه نموذجا فريدا في الضفة الجنوبية للمتوسط.
وبقدر ما يُغري هذا الوضع الفاعلين الاقتصاديين الإسبان، فإنه يفرض عليهم أيضا التعاطي بندية واحترام لمعادلات جديدة، يكون فيها المغرب ليس فقط وجهة، بل شريكا مقررا في نوعية المشاريع وحدود الشراكة.