احتدم الجدل السياسي والإعلامي في إسبانيا بعد دخول القرار الحكومي القاضي بإعادة توزيع القاصرين الأجانب غير المصحوبين بذويهم من جزر الكناري والمدينتين المغربيتين المحتلتين سبتة ومليلية إلى باقي الأقاليم الإسبانية، حيز التنفيذ، في خطوة اعتبرتها الحكومة المركزية استجابة لحالة ضغط ميداني، فيما اعتبرتها جهات معارضة وهيئات ترابية بمثابة محاولة لفرض واقع ديموغرافي واجتماعي دون توافق مسبق.
ويقضي المرسوم الملكي، الذي نُشر في الجريدة الرسمية الإسبانية بعد مصادقة برلمانية بأغلبية نسبية، بتوزيع أزيد من 4400 قاصر أجنبي، يمثل المغاربة النسبة الأكبر منهم، على عدد من الجهات الإسبانية الداخلية، وفق معايير ترتكز على الكثافة السكانية والدخل الفردي ومعدل البطالة وسجل الجهات في استقبال المهاجرين. وقد رُصدت اعتمادات مالية إضافية لصالح الجهات التي تتجاوز حصصها الطبيعية.
لكن خلف هذه المعايير التقنية، برز صراع سياسي حاد، عبّرت عنه بوضوح قوى المعارضة اليمينية، خصوصاً حزب “فوكس”، الذي وصف القرار بـ”الاستسلام للهجرة غير الشرعية”، و”تطبيع مع واقع غير قانوني يُهدد الأمن القومي الإسباني”.
أما الحزب الشعبي، فرغم تردده في التصعيد، فقد عبّر عن رفضه لما اعتبره “إملاء من مدريد على الأقاليم دون استشارة فعلية”.
فيما عبّرت حكومات جهوية عن رفضها المطلق للقرار، وفي مقدمتها جزر البليار وكانتابريا ومدينة مليلية المحتلة، التي لوّحت باللجوء إلى القضاء الدستوري الإسباني، مؤكدة أن الإمكانيات اللوجستية والاجتماعية لا تسمح باستقبال قاصرين إضافيين.
في المقابل، دافعت وزيرة الشؤون الاجتماعية الإسبانية، سيريايو، عن القرار، مؤكدة أنه ينسجم مع مقتضيات “المصلحة الفضلى للطفل”، وأن الدولة الإسبانية ملزمة دستوريا بحماية القاصرين فوق ترابها، بصرف النظر عن أوضاعهم القانونية.
غير أن هذا الخطاب الرسمي يصطدم بواقع ميداني معقّد، لاسيما أن نسبة هامة من القاصرين المعنيين بالقرار يحملون الجنسية المغربية، ما يجعل المغرب، بقوة الأمر الواقع، الطرف الأساسي في أي معالجة شاملة للملف.
وفي هذا السياق، تؤكد المملكة المغربية باستمرار أن التعاون في هذا المجال لا يمكن أن يتم إلا في إطار احترام السيادة الوطنية، عبر قنوات قنصلية رسمية، وبعد التحقق الفردي من الهوية، ورفض أي صيغة ترحيل جماعي أو مشروط بضغوط سياسية.
ولعل ما يعزز هذا الموقف المغربي، هو أن موجة الهجرة غير النظامية التي شهدتها مدينة سبتة المحتلة في ماي 2021، لم تكن الأخيرة، إذ سجّل الميدان في شتنبر 2024 موجة أعنف وأكثر تنظيما، شارك فيها المئات من القاصرين والشباب المغاربة، وتم التحضير لها بشكل منسّق عبر وسائط التواصل، ما يؤشر على خلل بنيوي في المعالجة الأوروبية للظاهرة.
كما تُظهر هذه الأحداث أن ما يُسوّق له من تنسيق نموذجي بين الرباط ومدريد، لا يعكس سوى الحد الأدنى من التعاون الإداري الظرفي، إذ تغيب آليات دائمة وشفافة للتنسيق الفعلي في الميدان، سواء على مستوى الضبط الحدودي أو التحقق من أوضاع القاصرين.
في المقابل، تحرص الرباط، التي تضع ملف الهجرة ضمن أجندتها السيادية والأمنية، على التمييز بين الحالات الإنسانية الفردية وبين محاولات تسييس الظاهرة لخدمة أجندات ضاغطة داخل الجارة الإيبيرية.
فالمغرب، الذي يحتضن مئات الآلاف من المهاجرين الأفارقة ويؤمن عبورا إنسانيا مسؤولا، لا يمكن تحميله مسؤولية اختلالات المنظومة الأوروبية، ولا جعله شماعة لفشل بعض الهيئات الترابية الإسبانية في ضمان اندماج القادمين الجدد.
كما أن الزجّ بملف القاصرين المغاربة في سياق الضغوط السياسية الداخلية في إسبانيا، قد يتحول إلى مناورة غير محسوبة في علاقة ثنائية دقيقة، خصوصا إذا اقترن بتصريحات أو إجراءات تمس برمزية المملكة في ما يتعلق بمدينتي سبتة ومليلية المحتلتين.
ويرى مراقبون أن ما تقدّمه الحكومة الإسبانية كخطوة تقنية، يخفي في عمقه تحولات مقلقة في المقاربة الإسبانية للهجرة، حيث بات من الأسهل توزيع “العبء البشري” على الأقاليم، بدل العمل على إرساء حلول تشاركية حقيقية مع دول المصدر، وعلى رأسها المغرب.
ويبقى التحدي الأكبر في مدى قدرة الجهات الإسبانية المستقبِلة على ضمان حقوق القاصرين، في ظل شكاوى مزمنة من ضعف البنيات، وقلة التأطير، وتنامي الخطاب العنصري، ما يُنذر بتحوّل الملف إلى مصدر احتكاك داخلي طويل الأمد.
وفي المحصلة، فإن ما يبدو على الورق قرارا إداريا، يتحول في الممارسة إلى اختبار سياسي، أخلاقي، وجيوستراتيجي، قد يُعيد صياغة معادلات العلاقة بين المغرب وإسبانيا، خاصة إذا استمر استعمال ملف الهجرة والقاصرين كورقة ضغط متكررة، خارج كل التزامات حسن الجوار والتعاون المتوازن بين ضفتي المتوسط.