الدكتور محمد مونشيح
يمثّل حراك جيل زد في المغرب تعبيراً ليس فقط عن مطالب اجتماعية مشروعة، بل يشي بوجود أزمة بنيوية أعمق في العلاقة بين الدولة والشباب، تتجاوز المطالب القطاعية لتُلامس جوهر إشكاليات التمثيل السياسي وفجوة الثقة. هذا الشعور بالخذلان يتأتى من وعود إصلاحية لم تُنفّذ، خصوصاً في مجالي الحماية الاجتماعية والتعليم، حيث أدّت هذه الإصلاحات إلى خدمة القطاع الخاص على حساب العام، ما عمّق الإحساس بالتهميش، ومن ثم تحوّلت المطالب الاجتماعية إلى مؤشّر واضح على أزمة ثقة بنيوية ناتجة من فشل في توزيع ثمار التنمية.
وفي سياق هذه الأزمة البنيوية، فقدت الحكومة والأحزاب دورها وسيطاً سياسياً فاعلاً، إذ تآكلت مصداقيتها لدى الجيل الرقمي الجديد بسبب فجوة معرفية وثقافية تفصل النخب التقليدية عن هؤلاء الشباب. هذا الفقدان للمصداقية أسّس لأزمة وساطة عميقة دفعت هذا الجيل إلى الاستغناء عن المؤسسات السياسية في التعبير والتنظيم، ولذلك، تحوّلت الفضاءات الرقمية بشكل طبيعي إلى منصّات مركزية للاحتجاج والتعبير السياسي. هنا، يبرز دور المؤثّرين على حساب الإنتاج الأكاديمي، مؤسّسين لـ”مجال عمومي بديل” مستقل عن الإعلام التقليدي، يوفّر قناة مباشرة ولامركزية للتنظيم (عبر أدوات مثل Discord وTikTok)، ما أنهى احتكار النخب للخطاب العام.
على الجانب الآخر، يأتي التعامل مع المؤسسات الموازية ليعكس جزءاً من الأزمة؛ فالمجتمع المدني المغربي، الذي كان نشطاً، هُمِّش منذ عام 2013 بخطوة إنشاء وزارة خاصة به، وهي خطوة اعتُبرت محاولة لعزله. وفي الوقت ذاته، وُضِعت الإصبع على مفارقة الأولويات في السياسات العمومية، حيث تُظهر الدولة كفاءة في تنفيذ مشاريع كبرى (كالمشاريع الرياضية) لكنها تعجز عن الاستجابة للحاجات الاجتماعية الأساسية، ما يرسّخ الإحساس بأنّ أولويات الحكم لا تتطابق مع أولويات المواطن. تتفاقم هذه المفارقة بفعل أزمة التواصل السياسي، حيث يصف محمد طوزي الخطاب الحكومي بأنه يستعمل “لغة لا يفهمها الشباب”، ما يؤكّد التنافر بين اللغة المؤسساتية البيروقراطية ولغة الشباب الرقمية السريعة.
أما في ما يتعلّق بتدبير الحراك، فقد بدا واضحاً أنّه وقع اختلال في التوازن بين عدد المحتجين وقدرة الأجهزة الأمنية على التأطير. وبالرغم من الطابع السلمي الغالب على الحركة، كانت الردود القضائية قوّية، ما قرّب المشهد من تكرار سيناريو الريف، الأمر الذي يُضرّ بفُرص الحوار والثقة. وبمقارنة هذه الظاهرة عالمياً وتاريخياً، نجد أنّ المغرب يقع ضمن نمط عالمي من الاحتجاجات الشبابية الرقمية (على غرار نيبال ومدغشقر)، لكنه يتميّز باستمرار المؤسسات وغياب التصعيد العنيف. علاوة على ذلك، تُظهر المقارنة التاريخية، استناداً إلى تحليل الباحثة في علم اجتماع الحركات الاجتماعية، منية بناني الشرايبي، استمرارية النزوع الشبابي نحو التعبير السياسي وإنشاء فضاء عمومي بديل، بالرغم من التباين الجذري بين ابتكارات شباب الثلاثينيات (كالنوادي الأدبية والصحافة) وتعبئة جيل GenZ212 الرقمية الحالية.
لفهم أعمق لحركة جيل زيد، يُفترض الاستناد إلى مفاهيم الذاكرة السياسية (لفهم استدعاء الرموز التاريخية الضمنية) ونظرية الحركات الاجتماعية (لفهم استمرارية التعبئة الشبابية). وفي هذا السياق، قدّمت منية بناني الشرايبي قراءة نقدية لمفهوم “التأديب السياسي” كآلية مؤسساتية غير مباشرة لـ”تأطير” و”توجيه” الطاقة الاحتجاجية للشباب بدلاً من القمع المباشر، مؤكّدة أنّ النظام المغربي، الذي أدار تداعيات الربيع العربي بمرونة نسبية، عاد إلى تشديد القبضة بعد 2013 في ظلّ تآكل فعالية السرديات الرسمية. ومن هنا، يبدو أنّ تدبير السلطة لهذه الحركة الاحتجاجية لم يختلف كثيراً عمّا سبق بفعل الخبرة المُتراكمة في هذا المجال.
ختاماً، تُشير هذه القراءة مُتعدّدة الأبعاد إلى إنّ المغرب يواجه أزمة بنيوية ضمن نمط عالمي من الاحتجاجات الرقمية. مع ذلك، يحتفظ المغرب بفرصة فريدة لإعادة بناء الجسور بين الدولة والمجتمع، الأمر الذي يستلزم تطوير لغة سياسية جديدة قائمة على المشاركة، وتفعيل قنوات الحوار عبر إصلاح مؤسسي تشاركي لاستعادة الثقة المفقودة.

