مع اقتراب أذان المغرب، يبدأ المتطوعون في توزيع التمر والماء على الصائمين الذين يتجمعون حول موائد الرحمن المنتشرة في مختلف أرجاء الإمارات.
لا يقتصر الأمر على تقديم وجبات الإفطار، بل يتعداه إلى خلق مساحات إنسانية يلتقي فيها الناس من مختلف الخلفيات، في مشهد يعكس قيم التضامن والتكافل العميقة في هذا المجتمع الخليجي.
في كل حي، أمام كل مسجد، وفي المناطق الصناعية وحتى في ورش البناء، تمتد موائد الإفطار، تجمع العابرين، والعمال، ومن لم يسعفه الوقت للعودة إلى منزله قبل الإفطار. لا أحد يسأل عن الأصول أو الوظائف، ولا مكان للفوارق الاجتماعية هنا، فالجميع يجلسون على طاولة واحدة، يتقاسمون اللقمة، واللحظة، وربما دعوةً صادقة تُطلق قبل رشفة الماء الأولى.
ليست الجمعيات الخيرية وحدها من ينظم هذه المبادرات، فالأمر تحوّل إلى عادة مجتمعية، حيث يشارك رجال الأعمال، والمطاعم، وحتى عموم العائلات في تمويل أو إعداد وجبات الإفطار.
البعض يأتي كل مساء فقط للمساعدة في التوزيع، بينما آخرون يتطوعون للطهي بأنفسهم، رغبة في أن يكونوا جزءا من هذا المشهد الذي لا يتكرر سوى في رمضان.
في أحد أحياء أبوظبي، يقف إبراهيم، شاب في العشرينيات، يوزّع الوجبات مع مجموعة من المتطوعين. “لم أكن أتوقع أن تكون تجربة بهذا العمق. في البداية، كان الأمر مجرد رغبة في فعل الخير، لكنني وجدت نفسي هنا، أتعرف على أشخاص من ثقافات مختلفة، أسمع قصصًا لم أكن لأسمعها في أي مكان آخر”، يقول وهو ينظر إلى الطاولات التي تمتلئ بالوجوه المبتسمة.
في دبي، تأخذ بعض الموائد طابعًا مختلفًا، حيث يعكس تنوع الطعام ثقافة الدولة التي تحتضن جنسيات من كل أنحاء العالم. الكسكس المغربي، البرياني الهندي، الأرز البخاري، وأطباق إماراتية تقليدية مثل الهريس والثريد، كلها حاضرة على الطاولات، كأنها رسالة بأن رمضان لا يجمع فقط الصائمين، بل يجمع عاداتهم وتقاليدهم أيضًا.
لكن الأمر لا يتعلق بالطعام فحسب، بل بالمواقف الصغيرة التي تجعل لهذه الموائد معنى أعمق.
هنا، يساعد رجل مسن شابا يجلس إلى جواره، هناك مجموعة من العمال يتبادلون الأحاديث عن ذكريات رمضان في أوطانهم، وفي ركن آخر، متطوع يحرص على ملء أكواب الماء، بينما يبتسم لكل من يمر أمامه.
هذه التفاصيل البسيطة هي التي تمنح رمضان في الإمارات روحًا خاصة، حيث يصبح العطاء عادةً تتجدد كل عام، وتتجاوز حدود الشهر الفضيل.
وفيما تتسارع الأيام نحو العشر الأواخر، تزداد أجواء العبادة، لكن موائد الرحمن تظل قائمة حتى آخر يوم من رمضان، شاهدة على مجتمع يرفض أن يترك أحدًا وحيدًا في هذا الشهر.
وعندما يحل عيد الفطر، قد تُرفع الموائد، لكن الأثر الذي تتركه يبقى طويلًا، محفورًا في الذاكرة، كواحدة من أصدق صور التكافل والتآخي التي يعيشها الناس في رمضان.