منذ عقود، ظل المغرب، دولة وشعبا، منحازا إلى فلسطين، ليس من باب المجاملة الدبلوماسية، ولا تماشيا مع المزاج العربي، بل انطلاقا من قناعة عميقة بأن هذه القضية تتجاوز الجغرافيا، وتمس صميم العدالة الإنسانية. لذلك، لم يكن التضامن مع الفلسطينيين طارئا، ولا بحاجة إلى تبرير.
غير أن هذا الثابت، الذي ظل محل إجماع وطني، بات اليوم ساحة لصراع رمزي بين تيارين يتعاملان مع المواقف بقدر غير قليل من التشنج، ويخلطان بين الانتماء والتخندق.
فمن جهة، هناك من يعتبر كل مقاربة رسمية للعلاقات الخارجية تمر عبر إعادة ضبط موقع المغرب ضمن المعادلة الإقليمية والدولية، خيانة للمبادئ، وذريعة لإدانة الدولة، ولو اقتضى ذلك تجاهل الحقائق والمعطيات.
ومن جهة أخرى، هناك من يحاول تأطير كل تعبير شعبي عن الغضب أو التعاطف باعتباره انحرافا عن الإجماع الوطني، أو خضوعا لإملاءات أيديولوجية.
والمؤكد أن كلا المقاربتين لا تخدمان المغرب، لا في التموقع الخارجي، ولا في الاستقرار الداخلي.
فالسياسة الخارجية، بحكم تعريفها، لا تُدار بردود الأفعال، ولا بالمزايدات، بل بتقدير المصالح، وترتيب الأولويات، والبحث عن التوازن الممكن بين المبدأ والمصلحة.
وفي هذا السياق، جاء القرار المغربي بإعادة تفعيل قنوات الاتصال مع إسرائيل، ضمن إطار تفاوضي واضح، ربط بين هذه الخطوة وبين الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، وهي مقايضة سياسية تمت من موقع سيادي، لا من موقع خضوع.
.. فالسياسات الخارجية، بحكم تعريفها، لا تُدار بردود الأفعال، ولا بالمزايدات، بل بتقدير المصالح، وترتيب الأولويات، والبحث عن التوازن الممكن بين المبدأ والمصلحة
لكن، وفي المقابل، لا يمكن لمثل هذه القرارات أن تعني انقطاعا عن فلسطين، أو خفوتا في التعبير عن الغضب من المآسي المتواصلة في غزة.
ذلك أن الخيارات الاستراتيجية لا تلغي الاعتبارات الإنسانية، والمواقف السياسية لا تمحو الانفعالات الأخلاقية التي تميّز وجدان هذا الشعب.
وإذا كان من المفيد أن نذكّر بخصوصية التجربة المغربية، فإنه من اللازم أيضاً الإشارة إلى ازدواجية المعايير التي تطبع بعض المواقف الراهنة.
فالدول التي تُقيم علاقات أعمق مع إسرائيل، مثل تركيا، لا تخضع غالبا لنفس الحملة الأخلاقية التي تُشن على دول أخرى كالامارات.
وهذا التناقض في المعايير يكشف أن بعض الرفض “المبدئي” لا يرتبط بالقضية نفسها، بقدر ما يعكس اصطفافات ظرفية، وأحكاما جاهزة تُصاغ وفق اعتبارات سياسية أكثر منها قيمية.
المغرب يمكنه أن يوقّع اتفاقيات دولية، ويعيد ترتيب تحالفاته، دون أن يتخلى عن ضميره، ودون أن يطلب من شعبه أن يغلق عينيه عن صور الضحايا.
ثمّة من يريد أن يقنع الناس بأن “التطبيع” يلغي كل شيء، وثمّة من يتصرّف وكأن السياسة تعني الصمت والانضباط فقط.
لكن في الواقع، المغرب يمكنه أن يوقّع اتفاقيات دولية، ويعيد ترتيب تحالفاته، دون أن يتخلى عن ضميره، ودون أن يطلب من شعبه أن يغلق عينيه عن صور الضحايا.
الذكاء السياسي ليس في الاختزال، بل في القدرة على حمل الموقفين معاً:
أن تقول “نعم” لمصالحك، دون أن تقول “لا” لمبادئك.
وأن تفهم أن الواقعية لا تعني التنكّر للعدالة، كما أن العدل لا يُصاغ بالشعارات فقط.
في المحصلة، لا أحد يملك الحق في المزايدة على وطن اختار أن يضع فلسطين في قلب ثوابته، دون أن يفرّط في سيادته.
ولا أحد يملك أن يُقصي صوتا، أو يُخوّن تعبيرا، فقط لأنه لا يشبهه.