من بوابة العزلة إلى دروب الانكماش، تمضي الجزائر الرسمية في مسار انحداري واضح، عنوانه فقدان التأثير، وتآكل الصورة، وتحول الدولة ذات الخطاب الثوري السابق إلى كيان مُرتبك، لا يجد مكانه في المعادلات الإقليمية سوى عبر افتعال التوتر وافتراس القضايا الخاسرة.
في عهد عبد المجيد تبون، الحاكم المدني الشكلي، وتحت وصاية المؤسسة العسكرية بقيادة الجنرال سعيد شنقريحة، أصبحت الجزائر عبئا دبلوماسيا على نفسها، وتحوّلت إلى دولة تائهة في الخطابات القديمة، فاقدة لأي قدرة على المبادرة أو إقناع الشركاء الدوليين.
فلم تعد سياسة الجزائر الخارجية تقوم على الوضوح أو المبادرة، بل باتت تدور في فلك ردود الأفعال الانفعالية.
أصبحت الجزائر عبئا دبلوماسيا على نفسها، وتحوّلت إلى دولة تائهة في الخطابات القديمة، فاقدة لأي قدرة على المبادرة أو إقناع الشركاء الدوليين.
من قطع العلاقات مع المغرب بطريقة أحادية بلا أي سند دبلوماسي عقلاني، إلى تأزيم العلاقات مع إسبانيا فقط لأنها قررت الاعتراف بمقترح الحكم الذاتي كحل واقعي للنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، ثم إلى دخول في مشاحنات متكررة مع فرنسا قبل العودة إلى التوسل للتعاون الأمني. كل هذه المواقف كشفت عن تخبط دبلوماسي غير مسبوق، وعن انحدار بلد أصبح ينتج الأزمات أكثر مما يحلها.
في المقابل، اختارت الجزائر الارتماء في أحضان محور دولي محدود التأثير، يتزعمه الكرملين وطهران، في وقت أصبحت فيه روسيا منشغلة بحرب استنزاف مُكلفة، وتخضع لعقوبات دولية خانقة، فيما إيران تعاني من أزمات داخلية خانقة ولا تملك أي حضور إفريقي أو متوسطي يذكر.
وقد أخرج هذا التموقع الضيق الجزائر من دائرة التأثير في التوازنات الإقليمية، وحصرها في حلف يزداد هشاشة كلما اتسعت دائرة التحولات الدولية.
الخطاب الجزائري الرسمي، من تبون إلى شنقريحة مرورا بأبواق الإعلام العمومي، بات أسير لغة المؤامرة وهوس “العدو الخارجي”.
فكل دولة لا توافق على أطروحة الانفصال تُتهم بأنها “أداة في يد الصهيونية”، وكل تصريح دولي لا يُساير العسكر يُتهم بأنه “عدوان سياسي”. فالجزائر لم تعد تتقن سوى صناعة الخصوم، حتى صار العزوف الدولي عن التفاعل معها نتيجة منطقية لهذا التوتر الدائم والمفتعل.
وعلى الصعيد القاري، فشلت الجزائر في بلورة أي مشروع إفريقي ملموس. لا شراكات اقتصادية حقيقية، ولا بنى تحتية إقليمية، ولا نفوذ في غرب إفريقيا أو سواحل الأطلسي.
بل إن جلّ مبادراتها بقيت حبيسة الشعارات، فيما فقدت تأثيرها حتى داخل الاتحاد الإفريقي، الذي بدأ يُعيد النظر تدريجيا في جدوى استمرار حضور كيان وهمي اسمه “الجمهورية الصحراوية”.
وأكثر من ذلك، تحوّلت مشاريع الجزائر إلى مجرد رد فعل متأخر على دينامية دول أخرى، دون أن تملك لا الجرأة ولا الكفاءة للمنافسة.
الجزائر اليوم دولة في وضع دوني، خارج حسابات القوى المؤثرة، مكبلة بحسابات نظام عسكري يعادي كل تحوّل، ويخاف من كل نجاح خارجي، ويرى في انفتاح الجيران تهديدا لوجوده.
الورقة الانفصالية التي ظلت تستثمر فيها الجزائر لعقود أصبحت اليوم عبئا ثقيلا. فجبهة البوليساريو التي تحتضنها وتمولها وتسوق لأطروحتها فقدت تعاطف الرأي العام العالمي، ولم تعد تحظى بأي وزن داخل أروقة الأمم المتحدة، بعدما حُسمت معالم الحل في إطار مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية. ومع توالي الاعترافات الدولية بهذا الطرح، ازداد انكشاف الجزائر كطرف مباشر في نزاع تحاول عبثا التنصل من مسؤوليته.
داخليا، لم تكن الجزائر أقل ارتباكا. قمع الحراك الشعبي وإغلاق الفضاء العام وتكميم الأفواه كلها عوامل جعلت النظام السياسي فاقدا للمشروعية الأخلاقية، ناهيك عن ضعفه المؤسساتي.
فكيف لدولة تُسجن صحافييها وتطارد معارضيها وتمنع التظاهر أن تُقنع المجتمع الدولي بأنها تمثل صوت الشعوب؟ صورة الجزائر في الخارج لم تعد صورة بلد مقاوم، بل بلد يُدار بعقلية أمنية، تغلّف التراجع بشعارات جوفاء.
أما على المستوى الاقتصادي، فعائدات الغاز لم تُترجم إلى نهضة تنموية، بل اختفت في دوامة الريع والفساد.
ولم تنتج الجزائر أي مشروع استراتيجي حقيقي يُحسب لها في محيطها المتوسطي أو الإفريقي. لا مشاريع طاقة عابرة للحدود، لا استثمارات نوعية في القارة، لا دور لوجستي، ولا صناعة حقيقية. ما يُقدم كإنجازات ليس إلا ترميمات في الوقت الضائع لنظام يعيش على عُمرٍ سياسي افتراضي.
في المحصلة، الجزائر اليوم دولة في وضع دوني، خارج حسابات القوى المؤثرة، مكبلة بحسابات نظام عسكري يعادي كل تحوّل، ويخاف من كل نجاح خارجي، ويرى في انفتاح الجيران تهديدا لوجوده. لم تعد تعني شيئا في معادلات المتوسط، ولا في ملفات الساحل، ولا في خرائط الاستثمار. كل ما تنتجه هو المزيد من الخطابات والمزيد من العزلة.