حين أطلّ الأمير مولاي الحسن على المغاربة سنة 2003، كانت البلاد قد بدأت لتوها فصلا جديدا مع الملك محمد السادس، في زمن يتّسم بالانتقال الهادئ من عقد الألفية إلى تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية واسعة.
واليوم، بعد مرور اثنين وعشرين عاما على ميلاد ولي العهد، يترسخ حضور شاب يبدو أنه نشأ ليُشبه الدولة التي يُنتظر منه أن يحملها.
لا يظهر مولاي الحسن كثيرا. ولكنه، في كل مرة يحضر فيها، لا يكون الأمر مجرّد مشاركة بروتوكولية. فمنذ سنين مبكرة، دأب على ترؤس فعاليات رسمية بحضور شخصيات وازنة وطنيا ودوليا: من افتتاح المعارض، إلى استقبال رؤساء الدول، إلى الإشراف على مشاريع استراتيجية. وهي إشارات لا تخفى على المتابعين لمسار صناعة القيادة داخل المؤسسة الملكية.
ليست الصورة التي يُقدّم بها مولاي الحسن للجمهور صورة طفل مدلل في حضن الحكم، بل شاب متأهب لمسؤولية ثقيلة، يُدرّب عليها بصمت. ملامحه الحازمة، لغته الجسدية المنضبطة، وتواجده المتقن في المناسبات الحساسة، كلها تفاصيل تشي بأننا أمام شخصية تُهيّأ بعناية، ولكن دون بهرجة أو استعراض زائد.
وفي بلد مثل المغرب، حيث تلعب المؤسسة الملكية دورا مركزيا في هندسة الاستقرار، تكتسي شخصية ولي العهد بعدا رمزيا أكبر من عمره. فالرأي العام لا ينظر إليه كـ”الابن البكر للملك” فقط، بل كمؤشر على كيف تفكر الدولة في مستقبلها، وكيف تُعدّ نفسها لاستمرار الشرعية دون تصدّع.
حضور منضبط ورسائل محسوبة
من يتابع ظهورات الأمير في السنوات الأخيرة، سيلاحظ كيف تتنوع مهامه بين ملفات الفلاحة، والتضامن، والديبلوماسية، والدفاع، والماء، والفرس، والتنمية الحضرية. هي قطاعات تُكوِّن العمود الفقري للإدارة المغربية الحديثة، ويبدو أن ولي العهد يُمرّ عبرها واحدا تلو الآخر، في مسار تدريبي طويل يهدف إلى الإحاطة بالملفات الاستراتيجية في صمت.

ففي أبريل الماضي، ترأس حفل افتتاح الدورة السابعة عشرة للمعرض الدولي للفلاحة بمكناس، وهو أكبر تظاهرة فلاحية بالقارة الإفريقية، حيث بدا واضحا أن حضوره لم يكن رمزيا فقط، بل خطوة ضمن أجندة تعلّمية تطال الملفات الأكثر حساسية في المستقبل الاقتصادي للمملكة، خاصة في ظل التحديات المناخية والمائية التي تواجهها.
وبتعليمات من الملك محمد السادس، ترأس ولي العهد، رفقة الأميرة للا خديجة، انطلاقة عملية “رمضان 1446″، التي توزع فيها المساعدات الغذائية على مليون أسرة مغربية، وهو ظهور ذو دلالة رمزية، بالنظر إلى البعد الاجتماعي التضامني الذي يشكّل ركيزة من ركائز المشروعية الملكية في المغرب.
وبنفس القدر من الدقة الرمزية، مثّل الأمير مولاي الحسن العاهل المغربي في استقبال رئيس الصين شي جين بينغ بالدار البيضاء في نونبر 2024، في زيارة وُصفت آنذاك بأنها تكريس للبعد المتعدد الأقطاب في السياسة الخارجية المغربية.
شخصية تكبر على مهل
وفي خلفية هذه الظهورات، تشتغل ماكينة الدولة على بناء ما يشبه “الملف الشخصي” لولي العهد: شاب يتقن اللغات، يتابع دراسته العليا في مؤسسات مرموقة، يملك حضورا في المناسبات السيادية، ويتدرج بثقة في سلم التكوين المؤسساتي. ولكن الأهم: لا ضجيج حوله.
وبعيدا عن أضواء الإعلام الشعبي، لا يُعرف عن الأمير إلا ما تسمح به المؤسسة الملكية من صور رسمية وبلاغات مختصرة. لا حسابات على شبكات التواصل، لا ظهورات عفوية أو عبارات مثيرة، ولا أي ملامح لاستعجال الدور أو استباق الأحداث.
ويبدو أن سمو الأمير يدرك – أو يُدرّب على أن يدرك – أن موقعه ليس للارتجال، وأن الشرعية تُبنى بالصمت أكثر مما تُبنى بالكلمات. وهذا ما يجعل صورته في أعين الرأي العام صورة رجل دولة قادم، لا فقط وريث عرش.
ويحكي مقربون من دوائر الشأن العام أن ولي العهد يمتلك شخصية رزينة، تنفر من الأضواء، وتولي اهتماماً بالتفاصيل. ولئن لم تُنقل عنه مواقف علنية، فإن حضوره الصامت لا يخلو من تعبير. فحين يسلّم الجوائز في مسابقات الفروسية، أو يشارك في مراسم تخرج الضباط، فإنه يؤدي دورا أكبر من مجرد الحضور: إنه يتماهى مع رمز الدولة، ويتشرّب تقاليدها.
استمرارية بوجه شاب
قد تكون المناسبة السنوية لميلاد سموه فرصة لتأمل موقعه داخل هندسة الحكم المغربي. ففي نظام ملكي ديني تاريخي مثل المغرب، تظل ولاية العهد مفهوماً يتجاوز الوراثة، ويتصل بمشروعية غارقة في عمق البيعة، والرمز، والاستمرارية.
ومن هذا المنظور، فإن ولي العهد مولاي الحسن هو أكثر من اسم في السجل الملكي: هو “رأسمال رمزي” للدولة، وجزء من مناعة مؤسساتية راكمتها التجربة المغربية في محيط إقليمي كثير الاضطراب. ولعل أكبر استثمار في هذا الرأسمال لا يتمثل في بروزه الآن، بل في تهييئه بهدوء لمهام الغد، دون استعجال أو ضغوط.

وليس من المصادفة أن تزايد حضوره في مناسبات الدولة جاء متوازيا مع عودة المغرب إلى مسارات دبلوماسية صاعدة، من الانفتاح على قوى إفريقية وآسيوية، إلى التنويع في الشراكات الاستراتيجية، إلى تنزيل مشاريع كبرى كتحلية مياه البحر، وأنبوب الغاز مع نيجيريا، وميناء الداخلة الأطلسي. إنه يحضر في قلب هذه السياقات لا بصفته صاحب امتياز، بل بوصفه وجهاً شاباً لدولة تراهن على المستقبل.
وفي هذا السياق، قد لا يكون مستغربا أن يرى فيه المغاربة رمزية مزدوجة: من جهة، ابن الملك الذي يمثل ضمانة استمرارية الحكم؛ ومن جهة أخرى، شاب من جيلهم، تربى في زمن الإنترنت، والتغيرات المناخية، والتحولات الثقافية. وهذا ما يضفي على شخصيته قدراً من التوازن النادر بين ما هو رمزي وتقليدي، وبين ما هو حديث وتواصلي، وإن بصيغته المؤسساتية الصامتة.
في الذكرى الثانية والعشرين لميلاد سموه، لا يُحتفى بمولاي الحسن كشخص فقط، بل كرمز لاستمرارية دولة اختارت أن تحمي نفسها من الفوضى الإقليمية، لا بتوسيع صلاحياتها فحسب، بل أيضاً بصناعة خلفائها بحذر. وهنا، لا يبدو أن “ولاية العهد” في المغرب مجرد موقع وراثي، بل مشروع مدروس، يُراكم الشرعية بالتكوين والمرافقة والممارسة.
إنه وجه الشاب الذي يكبر بهدوء في حضن المؤسسة، ولكن بعيون مفتوحة على العالم، وعلى مغرب يتغير بسرعة… شاب لا يركض خلف الأضواء، لأنه يعرف أن دوره الحقيقي لم يحن بعد.