في خضم تحوّلات متسارعة تعرفها ظاهرة الهجرة غير النظامية، لم يعد الطريق إلى الفردوس الأوروبي يبدأ من شاطئ أو غابة، بل قد ينطلق من مقطع فيديو أو منشور على تطبيقات التواصل.
هذا ما بات يقلق السلطات المغربية، التي كثّفت في الأشهر الأخيرة من عمليات رصد المحتوى الرقمي الذي يحرض على الهجرة، أو يوهم بوجود فرص عبور جماعي، كما حصل مرارا منذ صيف 2024.
ففي أحدث تدخل أمني، تمكنت مصالح الأمن الوطني، بتنسيق وثيق مع المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، صباح الثلاثاء 25 مارس الجاري، من توقيف شخصين يُشتبه في تورطهما في التحريض الرقمي على تنظيم الهجرة غير المشروعة.
وجاءت العملية بناء على تقاطع معطيات دقيقة، إثر رصد مصالح اليقظة المعلوماتية لمنشورات رقمية تزعم التحضير لاقتحام السياج الأمني بين مدينة الفنيدق ومدينة سبتة المحتلة، وتدعو مستعملي تطبيقات التواصل الاجتماعي إلى المشاركة فيما يشبه “الهجرة الجماعية”.
وقد أفضت الأبحاث التقنية والتحريات الميدانية إلى تحديد هوية المشتبه فيهما، حيث تم توقيف أحدهما بالمنطقة القروية “بوزطاط” التابعة لجماعة باب تازة بضواحي شفشاون، فيما جرى توقيف الثاني بمدينة فاس.
وتُوجت هذه العملية بوضع المعنيين بالأمر رهن إشارة البحث القضائي تحت إشراف النيابة العامة المختصة، لكشف ملابسات هذه الأفعال وظروف ارتكابها، وتحديد الجهات أو الأفراد المحتمل تورطهم في تغذية هذا النوع من الخطاب المحرّض.
ولا تنفصل هذه الاعتقالات عن سياق أشمل، تبلور بشكل واضح منذ المحاولة الجماعية لاقتحام السياج الحدودي، ليلة 15 شتنبر 2024، والتي جرى الترويج لها آنذاك بشكل منسّق عبر محتويات رقمية مضلّلة، مستهدفة فئات شابة وهشة، من مختلف مناطق المملكة.
منذ ذلك الحدث، باشرت أجهزة الدولة مراجعة دقيقة لآليات الاشتغال الأمني الرقمي، في إطار مقاربة استباقية قائمة على التحصين المعلوماتي، ومنع توظيف الفضاء الافتراضي في تهديد النظام العام وتعريض الأفراد للخطر.
وتندرج هذه المقاربة ضمن الاستراتيجية الوطنية الشاملة لمكافحة شبكات تهريب المهاجرين والاتجار بالبشر، وهي استراتيجية ترتكز على تعزيز الرصد التقني، وتطوير وسائل التحليل الرقمي، بالإضافة إلى العمل القضائي الرصين الذي يُفعّل مقتضيات القانون الجنائي وقانون محاربة الجريمة المنظمة العابرة للحدود.
ويحرص المغرب، في إطار احترامه التام للمقتضيات الدستورية والتزاماته الدولية، على أن تُنفذ هذه الإجراءات وفق ضمانات المحاكمة العادلة، بما في ذلك قرينة البراءة، والحق في الدفاع، والإشراف القضائي المستقل، في انسجام تام مع المواثيق الدولية ذات الصلة.
وفي مواجهة هذا النمط الجديد من التحريض، لا يقتصر تدخل الدولة على المعالجة الزجرية، بل يشمل أيضاً الجانب الوقائي والتوعوي. إذ تعمل وزارات التربية الوطنية، والشباب والثقافة والتواصل، على تنفيذ برامج تحسيسية تستهدف الفئات الشابة، وتهدف إلى نشر ثقافة المواطنة الرقمية، وتفكيك الخطابات التضليلية، وبناء مناعة فكرية واجتماعية في وجه دعوات التغرير والانزلاق.
ويواكب المجلس الوطني لحقوق الإنسان هذه الجهود من خلال رصد وتحليل الظواهر ذات الصلة بالتحريض الرقمي على الهجرة، واقتراح توصيات من شأنها تحقيق التوازن بين احترام الحقوق الأساسية وحماية النظام العام، مع التأكيد على ضرورة التصدي لأي استغلال للوضعية الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين من طرف جهات إجرامية أو مشبوهة.
وفي أفق إعادة تحيين السياسة الوطنية للهجرة واللجوء، تُطرح الحاجة اليوم إلى مواصلة تنزيل مقاربة مندمجة، تُزاوج بين ما هو أمني، اجتماعي، حقوقي وتنموي، بما يضمن معالجة الأسباب البنيوية للهشاشة، ويُسهم في تحصين الشباب المغربي من خطابات الوهم والخطر.
وفي محيط إقليمي يزداد تعقيدا، وسط تصاعد تدفقات الهجرة غير النظامية نحو أوروبا، وتنامي نشاط شبكات الاتجار بالبشر في منطقة الساحل وجنوب المتوسط، تواصل المملكة المغربية تأكيد مكانتها كشريك استراتيجي مسؤول، يعمل بمنطق التضامن والالتزام، ويسعى إلى تحقيق توازن دقيق بين محاربة الظاهرة وضمان الحقوق الإنسانية.
فمعركة المغرب ضد الهجرة غير النظامية لم تعد تُخاض فقط على مستوى الجغرافيا، بل أيضاً داخل العالم الرقمي، حيث تُبنى السرديات، وتُزرع الأوهام، وتُعبّأ النفوس. وهي معركة لا تُكسب فقط بالحواجز والأسلاك، بل أيضاً بالثقة، والتربية، والبدائل الكريمة.